من خلال كتابه " انزياحات أخرى " الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان .جاء الكتاب معنونا بـ " نصانيات"، وهو اقتراح شكل وبنيوي جديد ، يطرحه الدكتور محمد الأسدي ، رافعا لغته النثرية إلى أقصى درجات الشعر ، ومخلصا شعريته من روحها لتنـزل على النثر ضيفة رب
أنت هنا
قراءة كتاب إنزياحات أخرى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
أتيح لدنقل تحقيق ذاته الإبداعية وسط عاصفة التجريب وحركة الشعر الجديد ، فنصه لا يشبه إلا نفسه ، واختياراته الموضوعية وأسلوبية العنوان وبنية النص كانت استثنائية لديه ، مشفوعة بلغة حية مسكونة بالفرادة الناشئة ، غير أن مقص الموت السريع سرعان ما تقاطع ومسارات هذه التجربة التي كانت تعد بالكثير .
***
ما كاد اللغط والجدل الذي أطلقته حركة الشعر الحر يتخذ مستقره بعد ، ولم تكد الحركة تستقصي قدرتها على الإنتاج والتنوع ، حتى انطلقت بعدها بسنين عددا حركة بدت انفعالية حماسية أكثر من كونها مآلاً فنيا وخطابا له مرتكزاته ، متأخرة عن انطلاقتها الفعلية في الجدل التأريخي لخطاب المغايرة العربي ، وإن انهمامها باستنساخ ريادة حركة التفعيلة صرفها تماماً عن النظر في ماهية الاصطلاح ومدى تعالقه مع المتن ، كان إجراءً على وجه السرعة حين اختار محمد الماغوط وأنسي الحاج مسارا ثالثا للكتابة الشعرية جنَّسه الأخير بـ " قصيدة النثر " ـ على وفق ترجمة أدونيس لاصطلاح سوزان برنار ـ وهو اتجاه نهض به معهما شعراء آخرون ، غير أن الماغوط والحاج ( المسبوقَين إلى ما يشبه ذلك بحسين مردان زمنيا وإن لم يضاههما فنياً ) كانا الأكثر تأثيراً في مجايليهما ولفتا لأنظارهم إلى الجوهر النثراني للكتابة بوصفه احتمالا جماليا قائما بقوة ، وقد أعرب الماغوط عن حيرته في تجنيس ما يكتب ، وكان دقيقا ومحتاطاً حين اكتفى بكونه " كاتب نصوص " فحسب ، وقد دأب الحداثويون على البتِّ بصلة أبوية مطلقة لنثرنة الماغوط وجماعته بالرافدين البودليري والرامبوي ، غير أن استدعاء التجربة واستعارة الآخر لا يعني التبعية بالضرورة ، فعلى وفق قياسٍ مطلق كهذا المنفي ستغدو الصلة أبوية مثلاً بين " حديث الإسراء والمعراج " ـ الذي يؤكد الأدب المقارن اطلاع دانته على نسخة مترجمة منه في مكتبة الفاتيكان ـ وبين " الكوميديا الإلهية " ، ولا نجد أحدا من الغربيين أبدى انهزامية تجاه هذه الحقيقة أو عد الكوميديا الإلهية هبةً عربيةً ، فيما هرعنا إلى الالتحاق بحافلة المنهزمين والقول بأننا لم نمتلك أدباً جديرا بالتأسيس لأرض أخرى في الكتابة ، بلى كان الرائي الكبير بودلير ونظراؤه من أَبدال الحداثة الغربية رافدا تثاقفيّاً التحق بروافد عربية أُخر مهدت للكتابة العربية الجديدة وعززت في الفضاء الثقافي العربي مراجعة جوهرية للأنواع والخطابات ، وأُضيفُ إليهما في التأسيس والتمهيد للكتابة العربية الجديدة جذمَين عربيين فاعلين في أبستمولوجيا النص العربي ، الأول منهما هو " القرآنية " بوصفها خطاباً قائما على المغايَرة ، على نحو تجاوز ثنائية الشعر الجاهلي والنثر الجاهلي واستقل عنهما استقلالا أسلوبيا شاملا ، والثاني هو " المناجَيات العرفانية " ممثلة بمرتكزات منها " النثرانية الحلاجية والنفّرية والبسطامية " بوصفها مغايرات منزاحة بخطاب الناسوت واللاهوت الذي انطلقت منه بوادر المعرفة العربية الأولى ، فقارئ نصوص مثل " طواسين " الحلاج ، و" مواقف " النفّري و " مخاطباته " ، و " شطحات " البسطامي ، و " نشوار المحاضرة " وأمثالها من متون الانزياح لا يعثر على الجاحظ ولا على عبد الحميد الكاتب ولا على القاضي الفاضل ، وإنما يجد نوعاً كتابيا لا يجمعه و ذلك النثر سوى شئ واحد هو انعدام الحفاوة بالإيقاع المتعارف ، وأما ما خلا ذلك فهو جديد في حوار الدلالات و أبنيته اللغوية والأسلوبية المزاوجة بين البنيتين الجمالية والفكرية ، والانطلاق بالدوال والعبارات إلى منطقة أكثر رحابة ، بل إن مقطّعات الحلاج والنفري الخليلية ـ على قلتها ـ لا تقل مغايرة للمألوف الخليلي عما في نثرانيتهما من مغايرة للمألوف النثري ، حين نضع في اعتبارنا انفصال النثر عن الشعر في الترسيمة البيانية القديمة ، فالكتابة المنشقة عن النوع بالمغايرة فكرة صامتة في تأريخ النص العربي لم يحملها الخطاب الاجتراري المتعالي على محمل الجد ، ولم يتم استنطاقها نقدياً لسطوة المهيمنات الثقافية النسقية ، مثلما نسب الشعر الحر إلى المؤثرات الغربية على الرغم من الاختلاف الجوهري بين المفهومين الغربي والعربي للشعر الحر ، وعلى الرغم من أن " أزهار ذابلة " هي أكثر شبها بالموشحات منها بشعر إليوت أو إديث سيتويل .