رواية "الموتى لا يكترثون"؛ لم كان الموتى يتكلمون؟
أنت هنا
قراءة كتاب الموتى لا يكترثون بالورود
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
II
منذ شهرين ونيف وحلمي يقطن في شقة رجل ذهب في إجازة وسمح له بالنزول فيها، إشفاقاً عليه من ناحية، وكي يحرسها من ناحية أخرى، فَتَرْكُ بيت في باريس مدة طويلة قد يغري اللصوص باقتحامه· حلمي الذي استطاب المقام والدفء لم يظهر رغبة في المغادرة بعد عودة صاحب الشقة، الذي لم يوفر مناسبة للتلميح له بأن الضيافة قد انتهت، لكن مزامير داود كانت تقرأ على أصم !!
في أحد الأيام عندما كان حلمي في طريق عودته إلى الشقة لاحظ أن خلف الستارة البيضاء الشفافة لنافذتها رجلاً يشق طرف الستارة برؤوس أنامله، يراقبه وهو يقطع الشارع· لم يكترث وإن كان التصرف قد أثار استغرابه، طبعاً إذا كان هو المقصود، ومن المرجح أنه كذلك إذ كان الشارع شبه مقفر· غير أن ما حدث بعد أن دلف العمارة كان أسرع مما تخيل، ما أن صعد بالمصعد وغادره حتى أذهله ما رأى، حقيبته أمام باب الشقة، لم يحاول طرق الباب أو قرع الجرس· حملها أو جرها، لا فرق، خرج دون أن ينظر للخلف، أو يرى إن كان صاحب الشقة ينظر إليه من عين الباب السحرية، بعد أن بصق مكانها تحية لمن سمح له بالسكن في شقته شهرين مجاناً·
قال حلمي وكما ترون دون سؤال أو جواب، أو حتى وداع وجدت نفسي في الشارع في محل صيانة ودهان يملكه ثلاثة من الشباب العرب في المنطقة الحادية عشرة التي تسكنها مجموعة كبيرة من الجالية العربية في المدينة·
لابد أنك لم تدفع الإيجار، أو عملت عملة سوداء علق طارق·
وهل طُلِبَ مني إيجا ر؟ أصلاً من أين لي كي أدفع، وماذا يمكن أن أفعل؟ رد حلمي محرجاً·
أنت أدرى عقب طارق باقتضاب·
مَسَّ نبيل شاربه الأسود الكثيف الطويل بخفة وقال بلهجته الدمشقية العتيقة الموسيقية محاولاً تغيير الموضوع ما بدكم تتغدوا ؟
رفع بشير الخجول رأسه من وراء شاشة الكومبيوتر الكبيرة التي كانت تخفي نصف وجهه البشوش تقريباً وقال مبتسماً مقلداً لهجة نبيل العصية على المحاكاة ما بصير يوم بلا غدا ؟ نهض طارق المائل للسمنة قليلاً، رفع سرواله الواسع الهابط تحت بوادر كرش قادم لا محالة، وقال كمن يحسم الموضوع في صيغة سؤال نذهب لمطعم التركي ؟
تمتم نبيل بصوت أعلى مما حسب كل يوم عند التركي
عدل طارق سرواله مرة أخرى، وحين بدا جاهزاً للخروج، وأعقب قائلاً: أكل رخيص وطيب
تدخل حلمي وقد وجد فرصته في ما ظنه خلافاً في الرأي إذا أردتم أذهب للسوق القريب وأشتري بعض الأجبان والخضار
دع هذا ليوم نكون فيه مفلسين حسم طارق الأمر بسرعة·
لم يجب حلمي، الساعي لطلب رضاهم جميعاً الآن· صمت، إذ كيف له أن يختلف مع أي منهم في هذه اللحظات·
وقف الرجال الثلاثة وقد استعدوا للخروج، بقي حلمي جالساً كأنه في حيرة من أمره لا يدري ما عليه عمله· بادره طارق بكلمة بديهية كان يتوقعها ويخشاها تفضل
لم يملك سوى الإجابة الكاذبة بصوت يشبه الهمس شكراً، تناولت الغداء قبل وصولي لاحظ علامات الاستغراب على الوجوه وأنَّ إجابته غير مقنعة، فأردف اذهبوا، عندي مشوار صغير، سأعود فيما بعد·
أقفلوا المحل، ساروا في اتجاه، وحلمي الذي ترك حقيبته في المحل دون استئذان، في اتجاه آخر·
المطعم التركي الشعبي الصغير، أو بالأحرى محل بيع الأطعمة السريعة، كائن على ركن زقاق ضيق، واجهتاه الزجاجيتان الكبيرتان تشرفان على شارعين، ولابد أن مصممه عوض الطاولات والكراسي المألوفة في المطاعم بلوح خشبي طويل مرتفع وسط الفراغ المتبقي من الحجرة الصغيرة، التي يحتل نصفها مكان تحضير الطعام، ليستخدم كمنضدة كبيرة ضيقة، بالإضافة إلى آخر ثبت على طول أحد الجدران ووضعت أمامه مقاعد مرتفعة دون مسند ظهر كالتي توجد في البارات·
كان الرجال الثلاثة يتناولون لحماً بالعجين أو بيتزا تركية كما يقولون تندُّراً، حين شاهدوا حلمي يتكئ على عامود كهرباء في رصيف الشارع المقابل، أشاروا له بالقدوم وقد عجبوا لماذا يقف هناك في البرد القارس· لم يتردد لحظة، قدماه المتجمدتان وجسمه النحيل الذي لم يعتد على مقاومة صقيع الشمال بعد كل هذه السنوات كانت بانتظار هذه الإشارة· عبر الشارع مسرعاً· لم يحاول الجلوس، وقف بجانبهم مبتسماً يحرك قدميه ليبعث الدفء فيهما ويرمق الطعام الساخن الذي لم يجد اليوم إلى معدته سبيلاً بعد·