رواية "الموتى لا يكترثون"؛ لم كان الموتى يتكلمون؟
أنت هنا
قراءة كتاب الموتى لا يكترثون بالورود
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
رد طارق تحت بعمل شاي
عاد حلمي يحمل الشاي والكؤوس المغسولة· قبل أن يبدأ في صب الشاي دخل الشاب الملتحي محتضناً غطاءين صوفيين· وضعهما على كرسي، خاطب حلمي فكرت فيك ليلة أمس··· ثم صمت بعد تردد ولم يتفوه بما كان متوقعاً ولا حاجة لقوله·
يسلموا قال حلمي وذكريات آثار نوم ليلة الأمس غير المريحة لا تزال ماثلة في ضلوعه المتعبة·
احتسى الشاب الشاي وأعرب عن شكره لحلمي بعرض أطرب مسامعه عندي اليوم شغل خفيف· يمكن تساعدني مقابل مئة فرنك
لم يسأل حلمي عن نوع العمل، كان الرقم الذي سمعه فوق تصوره وثقيلاً على جيب لم يعرف حملاً كهذا منذ دهر طويل·
أنا جاهز أجاب بسرور لم تبد هناك محاولة لإخفائه·
على خيرة الله قال الشاب بعد أن أعاد كوب الشاي إلى الطبق، ثم أردف سأعود بعد قليل
ذلك المساء، لم ينتظر حلمي داخل المحل ليقفل عليه الباب· خرج مع أصحاب المحل وودعهم أمام بقالة عربية اشترى منها عشاءه وإفطاره وأرخص زجاجة نبيذ وجدها في البقالة·
بعث العشاء والنبيذ دفئاً في أوصاله· خرج إلى الشارع ليكتشف المنطقة في الليل· كانت الشوارع تتأهب للنوم مثل ساكنيها· محلات الحلوى العربية أقفلت أبوابها، ووارت الأطباق الكبيرة وقطع الحلوى المركبة على بعضها بعضاً كالأهرامات· دكان الجزار أقفل على العبارة العربية المخطوطة بخط أحمر كبيرالإسلام هو الحل وكأنه لا يرفع شعاره إلا في النهار· المنطقة الفاصلة بين جانبي البولفار الكبير التي تستخدم حتى المغيب كسوق خضار مفتوح كانت قد نظفت تماماً بخراطيم ماء قوية، وبدت مقفرة كما لم تكن تعج بالعشرات في الصباح، ولا ببعض الفقراء الذين يستصلحون من الخضار والفواكه الملقية في صناديق القمامة قوتهم اليومي بين ما ألقى به الباعة وجمعها مجاناً·
كان السوق كجثة هامدة بلا حراك· عادت المنطقة حياً باريسياً وقد فارقتها جموع المهاجرين من عرب وأفارقة وصينيين وغيرهم من الأجناس والألوان· لم يكن ينقص بعض شوارعها المقفرة من المارة سوى كرات قش جافة تذروها الرياح العاصفة كما في أفلام رعاة البقر، كان حلمي يفكر، وخواء داخلي يطغى عليه، يقلقه ويشعره بوحدة ثقيلة، فقفل عائداً·
عند رجوعه وجد أمام المحل صناديق ورق مقوى مربوطة بحبل متين· تمعن بها، نظر إلى يمنه وشماله، رأى فتاة وشاباً قادمين صوبه· كانت الفتاة تضم ذراع الشاب قرب إبطه طلباً للدفء أو تعبيراً عن عشق، أو كليهما· كان وقع كعب حذائها العالي يطرق الرصيف بانتظام· يسيران على الطرف المقابل له، لمح ساقي الفتاة الطويلين حيث إن ثوبها كان بالغ القصر· لم يتساءل كيف تتحمل الفتيات البرد القارس بهذه الملابس، لأن هذا في الواقع لا يقلقه بل يسره· انتظر حتى تواريا في شارع جانبي· جر الورق المقوى إلى داخل المحل· هبط به إلى الطابق السفلي بصعوبة، أخلى مكاناً في الحجرة الصغيرة· قطع الحبل، فرش الورق المقوى على الأرض فوق قطن أصفر يستعمل كمادة عازلة وجد منه لفة كبيرة في الحجرة، ثم فرش منه كمية فوق الورق أيضاً· اختار أخف الغطائين الصوفيين سمكاً وفرشه فوق ما بدا كسرير الآن· حسب أنه سينام تلك الليلة نوماً هنيئاً· غطى نفسه بالغطاء الآخر والمعطف الثقيل دون أن يخلع مما يرتديه شيئاً سوى الحذاء·
لم تكد عيناه تغمضان حتى سمع صوت قفز عصافير نبيل سجينة قفص معلق قرب الكوة العليا· من حسن حظه أنها لم تغرد· كان يتقلب في سريره حين سمع خشخشة في الحجرة· أضاء النور، رأى فأراً يفر خلف سطل دهان·
وأنت جائع أم لسعك البرد أيها المسكين ! خاطبه حلمي في سره مبتسماً، وعاد يغط في نوم عميق، إذ إن جسمه النحيل لم يكن معتاداً على أعمال الصيانة المرهقة·
تعاقبت الفصول وحلمي لا زال في جحره· لم يكن أصحاب المحل راضين عن طول إقامته غير الشرعية عندهم، لكن قبلوه مرغمين كمرض قلب لا علاج له سوى الحيطة·
لعله في وضع أفضل منا، لا أجرة بيت، لا ضرائب، لا فواتير كهرباء، ماء وهاتف··· على الأقل أعلم أنه في وضع أفضل مني· قال أحدهم يوماً·
من طرفه كان حلمي يعلم أنهم لن يطلبوا منه المغادرة· يعلم أنهم طيبون عاطفيون وقيمهم لم تغيرها الغربة، فلم يشغل تفكيره بما لا حاجة للتفكير به، وربما لإدراكه الخاطئ أو الصحيح أن العربي يطنب في الحديث عن الاحتلال ولا يفعل كثيراً للتخلص منه·