كتاب "البئر الأولى، فصول من السيرة الذاتية"، يقول المؤلف جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة كتابه: أنا لا أكتب هنا تاريخاً لتلك الفترة· ثمة من هم أعلم، وأجدر، وأبرع مني في سلسلة ووصف أحداث العشرينات وأوائل الثلاثينات في فلسطين· ولا أنا أكتب هنا تاريخاً لأسرتي، لأن
أنت هنا
قراءة كتاب البئر الأولى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
في المستهل
لماذا سيرة الطفولة هذه ؟
أردت في البدء أن أكتب سيرة ذاتية كاملة، لا سيما بعد أن طالبت أدباء جيلي أكثر من مرة بكتابة مذكراتهم، وتسجيل تجربة التغيير، والنمو، والصراع، التي تجعل لحياتهم، وحياة كل منا، بل للحياة في عصرنا كله، مذاقها وبعض معناها·
ولكنني أدركت أنني إذا أردت الدقة والتفصيل، يجب عليّ أن أعود إلى عدد ضخم من المدوّنات، وبخاصة الرسائل التي كتبتها، وتلك التي تسلمتها، في سني حياتي· وهي بالآلاف، وبالعربية والإنكليزية، وفي أقطار عديدة· فاكتشفت عندها عسر المهمة، لاستحالة العودة إلى معظم تلك الرسائل - وليس في حوزتي إلاّ بعضها· وأدركت أنني بدون هذه الرسائل سأضطر إلى الاعتماد فيما أقول على الذاكرة فحسب، بكل ثغراتها وخلخلاتها واضطرابها·
فقررت أن أكتب عن السنين الأولى فقط من حياتي: ابتداءً من طفولتي، بأبعد ما تسعفني الذاكرة منها، إلى أن انتهيت من دراستي في إنكلترا، وعدت إلى القدس مليئاً بالأفكار ومحموماً بها، وممزّقاً بين ضروب متناقضة من الوعي، في مطلع سنتي الرابعة والعشرين·
ثم شعرت أن سنوات دراستي في أكستر، وكمبردج (وبعض الوقت في أكسفورد)، تحتاج وحدها إلى مجلّد خاص، إن أنا أردت الصدق مع نفسي والتعمق في تجربتي· فقلت : إذن أكتب أولاً عن حياتي حتى سن التاسعة عشرة، وهي السن التي حالما تخطيتها - بأسبوعين اثنين أو أقل - غادرت القدس طلباً للدراسة الجامعية في انكلترا· فهي خاتمة مرحلة، وبداية أخرى، ومهما يكن من أمر، فإن سني حياتي الأولى تلك تزدحم بتجارب وأحداث شخصية لا بد من متابعتها واستيضاحها· والكتابة عنها ستكون شيئاً مثيراً، ولو صعباً، وقد تسهّل عليّ الدخول في سرد المرحلة اللاحقة·
ولكن حالما بدأت أكتب عن أولى ذكرياتي الطفولية، وجدت أن عليّ أن أختصر كثيراً، وأحذف كثيراً وأهمل الكثير، وإلاّ فإنني لن أنتهي· وأدركت مرة أخرى أن الفترة التي طالبت نفسي بالكتابة عنها أطول مما ينبغي، كمسألة أساسية· لأن الطفولة شيء، والمراهقة شيء آخر، ورغم أن المراهقة امتداد بتجارب الطفولة من حيث الجوهر - من حيث الرؤية المتنامية للحياة - فقد كان في فترة المراهقة من الغنى، والتشعّب، واللذة، والألم، والحب، والصداقات، ما لن أفي بعض حقه إلا بمجلّد منفرد· فقررت أخيراً الاكتفاء بالسنين الاثنتي عشرة الأولى من حياتي - أو بالأحرى بسبع أو ثماني سنوات منها - منتهياً بانتقالي مع والديّ من بيت لحم إلى القدس عام 2 3 9 1· وكان هذا حدثاً حاسماً بالنسبة لما جرى لي فيما بعد·
وعندما أخذت أراجع نفسي بشأن أحداث هذه الطفولة، وجدت أنني، عبر أكثر من أربعين سنة من الكتابة، استعرت العديد منها في مقالاتي وقصصي القصيرة، وبخاصة في رواياتي· فهل أتناول بعض ما كتبته هناك كأجزاء إيضاحية أو قصصية، وأعيد كتابته في سياق جديد، كترجمة ذاتية صرف؟ لا· لن أفعل ذلك· ولأترك على حاله ما صغتُه من طفولتي قصصاً وأحداثاً روائية، وللدارسين أن يستخلصوه ويفهموه كيفما شاؤوا· ولأتناول ما لم أدخله في صياغاتي تلك، وهو ليس بالقليل·
أذكر أنني كنت يوماً في مقهى في القدس، بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية (عام 5 4 9 1)· فتعرّفت بسيّدة جذابة وذكية اسمها هايدي لويد، قالت إنها نحّاتة وتدرّس النحت في بغداد، وزوجها سيتون لويد آثاري مشهور، وكنت يومئذ رئيساً لنادي الفنون، ومدرّساً للأدب الانكليزي في الكلية الرشيدية، وأكتب الشعر بالإنكليزية وأنشره، ويظهر أنها قرأت بعضه، ولكن ظروفي المعيشية كانت قاسية، وأرفض أن أعلم أحداً بتفاصيلها·
وقد فاجأتني، حين جاءت قهوتنا، إذ قالت بشيء من الإغراء : حدثني عن حياتك! يقولون إنك عشت وما زلت تعيش حياة مثيرة·
ضحكت عندها، وقلت : حياة مثيرة؟ أنا لست بطل الأبطال، إن كنت لا تعلمين
قالت : لا، لا··· أنا أعني ذلك النوع من الحياة· ولكن تجربتك الفيزيائية، النفسية، الذهنية، علاقاتك العاطفية···
وبلمح البصر، عاودني خليط من أحداث طفولتي ومراهقتي وسنواتي في إنكلترا بتداخل وتسارع عجيبين·
قلت : إذا كان هذا ما تقصدين، فسأفعل ولكن ليس الآن، لأن القصة طويلة، طويلة جداً·
قالت : إذن أنتظر أن أقرأ سيرتك الذاتية يوماً ما؟