المجموعة القصصية "الصدى" للكاتب محمد زكريا الزعيم، يقول في مقدمتها:
أنت هنا
قراءة كتاب الصدى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الصدى
النَّفسُ البَشَريَّة
نحن أعرف بأنفسنا
نحن نعرف أنفسنا
معن بن زائدة
يخيل إليَّ وأنا أطالع سير أولئك الصحب الكرام والأجداد الأوائل أنَّ أولئك القوم الكرام قد نشؤوا في أرض فاضلة بين السحاب ، حصباؤها لآلئ قطر لا حجارة طريق ! .
وهواؤها رخي عليل لا غبار عليه صفيق ، وفضاؤهم واسع أبيض لا تعلوه أسقف لا تحده جدر .
لذلك اتسعت آفاقهم ، ونصعت سريرتهم ، وارتقت أنفسهم وأراني كلما قرأت سيرهم وتقصيت أخبارهم يمتلأ صدري بأخلال المشاعر وأمشاج اللواعج ثم ينحاز من بينها شعوران :
شعور بالرضا والطرب إعجاباً بما رأيت من أمرهم افتناناً بما عرفت من خبرهم وشعور بالحسرة والألم وإحساس بدنو الدرك وصغر الشأن لأننا لا نستطيع نحن أبناء هذه الحقبة أن نبلغ شأنهم أو نرقى إلى علاهم ، فإن البون شاسع والملتقى عسير فكأن السمع والبصر والفؤاد عندهم قد أضحى خيراً فلا يرون إلا فضلاً ولا يسمعون إلا حقاً ولا ينطقون إلا صدقاً .
أو كأن الفضيلة قد تجسدت في شخصيتهم أو تجلَّت في طلعتهم فلا نحسُّ منهم إلا نبلاً ولا يبدو منهم إلا طيباً .
فلو سُئل أحد أصحاب التيه والعجب ممن يريدون علوَّاً في الأرض ماذا تتمنى ؟ لأجاب دون تردد : احترام الأقارب وتقدير الأباعد ! . .
فإذا قاطعناه مستنكرين وهل تحترم أنت نفسك أولاً ؟ حجظت عيناه ثم نظر إلينا بشزرٍ وبلادة واستنكار قائلاً : وما علاقة هذا بذاك ؟
لقد فات هذا الأحمق أن من يروم الطابق الخامس في المبنى لا بدَّ أن يمر بالطابق الرابع ومن أراد أن يبلغ الأعلى من السلم لا بد أن يبدأ بالصعود من الأدنى .
فإذا لم يحترم الإنسان نفسَه فلن يبلغ منزلة احترام الآخرين وتقدير الذات لا يتأتى لأحد ما لم يؤد الواجب للواجب برضا نفسٍ وطيب خاطر ولا تنبغي له تلك المنزلة ما لم يكن الصدق مع النفس ملء إهابه ومعالم طريقه ، فإذا ما بلغ ذلك المرتقى الصعب ارتدى رداء الفضل وتجلبب عباءة النبل .
حينئذ يأتيه تقدير الأغيار طوعاً أو كرهاً ولو كانوا من ألد الخصام دون أن تطلبه نفس أو تسعى إليه حثيثاً ! .
ولعل من أصدق مظاهر احترام الذات أن يؤدي الإنسان الواجب دون رقيب أو شهيد وكأن الفضل طبعاً فيه أو جبلّة جبل عليها لذلك صرخ معن في وجه لائمه بإصرار حين رمى كيس الدنانير للمرأة " إن كانت لا تعرفنا فإننا نعرف أنفسنا " .
هذه هي العزة الني ننشد والمنزلة التي نصبو إليها فمن لم تكن عزّته من داخله وعظمته من ذاته فليس له من سواها نصيب ! .
إن سلوك خير يقصر عنه كل قلم ويضيق عنه كل قرطاس إنَه المعروف في السر والعلن والفضل بلا خوف ولا طمع ! . .
الكنز في أعماق النفس
كل ما يوجد بعيداً عن متناول اليد ، وكلُّ ما يوجد أمامنا شيء صغير للغاية إذا ما قيس بما يوجد في أعماق أنفسنا
رالف والدو أمرسون
زُيِّن للإنسان أن يبحث عن كل ما هو ثمين نادر من نفائس اللآلئ ومن روائع ا لجواهر ولا يزال يخطف بصره بريق الذهب ووميض الورق .
فهو لا يفتأ يلتمس لك الكنوز من ظانّها ، ويلهث طالباً إياها من مواطنها ، فتراه يكدُّ الذهن ويبذل الطوق ويفني العمر في سبيل ما يبتغي ولكن عبثاً إنَّ سعيه هباء ، ورجاءه سراب ، لأنه ضلَّ الطريق ، وتاه عن الدرب ، فكيف يهتدي إلى ما عنه يبحث ويمسك بما منه تفلَّت ؟ ! .
فلا عجب إذن أن يؤوب من بحثه خالي الوفاض ، قاطع الرجاء ينفض يديه من مناه كما تُنفض كفاه من ترب مَنْ في القبر وراءه وما خيبة رجاء ذلك الأعمى الضال إلا أنه :
كالعيس يقتلها الظمأ والماء فوق ظهرها محمول
فهو لم يدقق النظر ، ولم يحسن البحث ، ولم ينته إلى الغوص ، ولو أدرك ذلك السر الكبير لسعى حثيثاً إلى رحلة الأعماق في أغوار النفس وشعاب الباطن ، فثمة المنجم الوحيد لكل النفائس ، والمحارة اليتيمة لكل اللآلئ ، وكلما مضى الغواص بعيداً في تلك الأعماق ، وغاب طويلاً في الأغوار وجد فيها ما لا يُقدَّر ، واستخرج منها ما لا يقيم وحظي منها بما لا أشباه له ولا نظائر .
وليس العظماء والمبدعون من صفوة البشرية إلا أناس ارتدّوا إلى ذواتهم وتعرفوا إلى أنفسهم فاستخرجوا من نفائس مخبآتها ، وتخيروا من نادر كنوزها .
إنهم معشر طلبوا الماء من ينبوعه والتمسوا العطر من أزهاره لقد عرفوا الموضع واهتدوا إلى ا لمنجم فشمروا الساعد وأجادوا الغوص ! .
فما أجدرك يا صاح أن تقتفي أثرهم وتسير على هديهم ، فإن لم تجد في نفسك ما تبتغي فلا تبتئس ولا تشكو بل اجعل من نفسك صعيداً مباركاً وثرى طيّباً ، يتنامى فيه أجود الزرع ويستوي على عروشه أطيب الغرس . . .