المجموعة القصصية "كلام الصمت"، للكاتب الليبي محمد عياد المغبوب، نقرأ من أجوائها:
أنت هنا
قراءة كتاب كلام الصمت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كلام الصمت
عائــد
(1)
ثلاثون عاماً قضاها في بلاد الآخرين.
خلفه ترك زوجة أحبته ، وثلاثة أطفال ، وفقر كبير، ، وآسى سكب في النفوس أنهاراً من الدموع ، وكل ما كان مالكاً له ، ودون انتظار من أحد ، عاد إلى حيث كانت صرخته الأولى.
الظروف التي أحاطت به ، وبالكثير من أمثاله الذين استلوا أقدامهم من الأرض عندما هبت عاصفة الهمج البيض لتقتلع شراع سفينة البلاد ، وتتركها تصارع الأمواج العاتية ، والعسكري البربري ، يجوس الديار كافة ، يهتك ستر، ويدنس العرض ، ويزيد الجسد مرضاً على مرضه .
لم يجعل من جسده سداً ، ومن روحه خنجراً يقطع به أوصال من قدم غازياً ينفخ في نار الحرب التي ركبت ظهر البحر من ضفته الأخرى
تثاقل إلى الأرض ، وأسلم خطوه إلى ناحية المغيب مثلما فر غيره هارباً إلى البلاد المجاورة ، والبعيدة كذلك .
هكذا كان اختياره مثلما كان اختيار الآخرين البقاء ، والصمود ، والمواجهة بدخول غمار الحرب ،كواجب مقدس تفرضه الضرورة ، ويحتمه فعل المواطنة ، ودون ترهيب ،أو ترغيب.
هناك توفرت لديه سبل العيش ، اتسعت له أولاً ، وضاقت عليه ثانياً ، وقبضت على خناقه أخيراً.
ثلاثون عاماً ، ترك الخيمة بلا وتد ، والبيت بلا سقف ، والذئاب بين اليوم ، وسواد ليله ، تحوم حول المكان ، مقتنصة لحظة غافلة ، لتمارس لذتها في أكل اللحم ، الذي يبدو سائغا ، فيما كانت البطون ، تأكل جوعها ، والألسنة تتوسل الآخرين الحد الأدنى لعيش كريم.
رجع ، وهو لا يدرك أي خطيئة اقترفها ، وأي عذاب استوطن الذي كان بيته ، لينبت في حلق الأسرة غصة ، وعلى طرف لسانها آهة ،كان الكبرياء يحبسها ، فلا تنطلق.
العائد ، أوصد الباب في وجهه ، والرفض ينكر عليه ، أي شيء كان صاحبه.
التي كانت له زوجة ، وجدته شبحاً كان يتسلل إلى نومها ، وأولاده بدا لهم ، الماضي الذي دفن نفسه تحت تراب العمر.
هناك عاش غريباً ، وهنا وجد الغربة تتلبسه ، وبين غربتين اختارهما كان مصيره ككل العائدين الذين مشوا مع القافلة ، بعد أن سلت من الأرض جذورها ، وسارت مع التيار، في رحلة التيه.
الزوجة تذكر أول خطواته الراحلة على طريق الغياب.
التوسلات الممزوجة بدموعها الحارقة ، لم تثنيه فقد كان مصرا على عزمه ، بشق الطريق إلى هناك .
حذرته كثيراً من المتاهة التي لن يخرج منها .
أفهمته أن قدميه ستبكيه ، ودرب الرحيل سيلعنه .
عاد العائد بعد أن أشرقت على الوطن أشعة الشمس الجديدة ، تنشر الدفء ، والأمنيات الطيبة ، وتطلق الحمائم التي كانت على أوتاد الظلم ، والظلام مقيدة ، ليجدها وقد حصدت ما زرعته من حُبِ ، وحَبِ في أرضها الطيبة.
فالخيمة أمست منـزلاً,
أولادها أصبحوا في غاية الشباب ، وفي غاية الزهو بما نالوا من خير البلاد الذي أضحت آمنة مطمئنة , وهي كوردة فتحت ريتاجها هذا الصباح في منتهى الزهو بما عملت ، فرحة بكل ما فيها مسرورة بكل ما يحيط بها .
اليوم يريد أن يسجل رجوعه على بابها فترفضه بكلام صمتها في وجهه .
تقذفه بعيداً عنها ، ليرحل إلى غياب جديد.