ليس خلعا للأبواب المفتوحة أن نزعم أنّ الفكر البشري إنما يتطوّر بتلاقح الأفكار وتجاورها واعتراكها واختصامها.
أنت هنا
قراءة كتاب بساتين الكلام - محاورات في الفكر والأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ولما كانت الثورة القرآنية قد تقدمت في تأسيس هذا الحل فإنها قد ألغت المؤسسة الدينية لئلا تدعي التوسط الروحي بين الله والإنسان وكلفت الدولة بوظائفها (الرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة) بشرط أن تكون رعاية الأمر التي لا تتعالى عليها الدولة شورى بين المسلمين. فهذه الرعاية من فروض العين كما حددها القرآن الكريم ومارسها الرسول والخلفاء الراشدون وليست من فروض الكفاية كما صيرها الاستبدادان اللذان أشرنا إليهما: استبداد العلماء في التشريع واستبداد الأمراء في التنفيذ مع تبعية الأولين للأخيرين سواء كانت الأنظمة قبلية أو عسكرية. وبدلا من التفكير في كيفية تجسيم هذه المؤسسات التي حدد القرآن مبادئها وشروطها وأخلاقها سلم المفكرون بموت قيم الثورة الإسلامية ظنا منهم أنها هي المسؤولة وليس تحريفها على ما تردى إليه حال المسلمين وباتوا يبحثون عن حلول أدت إلى الإفلاس الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي.
لماذا يشعر عموم القراء العرب بالعزوف عن الشأن الفكريّ، وكأنّ اليأس بدا يدب في نفوسهم، نتيجة الخيبات المستمرة التي ابتلوا بها نتيجة رفع شعارات لم تثبت إلا فشلها في رفع رهانات التفوق الحضاريّ، فهل هي ''نظرية المؤامرة'' وقد تأبّدت؟ وكيف يتجاوز الخطاب الفكري العربيّ ''جلد الذات'' إلى ''النقد العلميّ'' البنّاء؟
- أجيبك حول وجه المسألة العملي وجهها الذي قد يبدو بعيدا كل البعد عن مطلوب سؤالك. لكن القياس بين الوجه العملي الذي أعتمده للقياس والوجه النظري الذي تفكر فيه لعلاقته بالعزوف عن القراءة يفهمنا أصل المسألة الواحدة. حضرت مؤخرا في مؤتمر الإصلاح العربي الثالث في الإسكندرية. وكان الموضوع: تجارب التعامل مع عوائق المجتمع المدني. فكنت أسمع كلاما لم أكد أفهم منه شيئا. لكأن المتكلمين من خارج مجرتنا، كانوا يتحدثون في أغلبهم عن مجتمع مدني يحتاج إلى تمويل من الدولة الوطنية أو يبررون تمويله من الإمبراطورية الأمريكية وأوروبا. أدركت حينها أنهم يتكلمون عن مجتمع مدني اصطناعي بديل من المجتمع المدني الذي لا يخلو منه عمران والذي هو غني عن التمويل من الدولة الوطنية ومن الاستعمار لأنه هو عين قوام العمران ومادته.
وهذا المجتمع المدني الحقيقي الذي يريدون تمويل بديل منه لاقتلاعه من الجذور باسم التحديث المسيخ والمستبد يمتاز بكون المؤمنين به مستعدين من أجل القيم التي يرعاها إلى حد التضحية بالنفس وليس بالمال فحسب. لذلك فهم لا يتكلمون عن هذا المجتمع المدني الحي والطبيعي أعني الراعي الحقيقي للحقوق المعبرة عن المصالح المادية والمصالح المعنوية التي يحيا الإنسان بها ومن أجلها في العمران السوي والتي يدافع عنها مثلما يدافع عن قيامه الذاتي بل هم يتكلمون عن البديل منه المستورد مثل كل مظاهر التحديث الاستبدادي الفوقي، وهذا البديل منه هو المجتمع المدني الغربي الذي يركبونه حصان طروادة لقتل ثقافتنا وإجهاض الصحوة، وكل ذلك لأن النخب لم تقم بما ينبغي لتطوير المجتمع المدني الذاتي تطويرا مدروسا يجعله ينمو من ذاته ومتكلما باسم القيم الكلية التي بشر بها الدين الإسلامي ولما يحقق منها الفكر الإنساني في الغرب إلا القليل وخاصة ما تعلق منها بالوعي بالكليات المتعالية ممثلة بحقوق الإنسان التي هي عينها مقاصد كلّ شرع سوي:
1- فمقصد العقل يعني حق حرية الفكر وليس مجرد الملكة النفسية.
2- ومقصد المال يعني حق حرية الملكية.
3- ومقصد العرض يعني حق حرية الكرامة.
4- ومقصد النفس يعني حق الحرية بإطلاق أو حق الحياة.
5- ومقصد الدين يعني حق حرية المعتقد كما حددته الآية 256 من سورة البقرة.
لكن كل كيان اصطناعي يحتاج إلى عكازات تسنده في وقوفه الوهمي. وهم يسمون ذلك معوقات المجتمع المدني التي تقتضي مساعدة من أعداء الأمة تموله حبا في عيون العملاء. ثم هم يبررون بهذه الحجج الواهية التمويل الأجنبي الساعي إلى تحطيم المجتمع المدني الذاتي ليستبدله بالمجتمع المدني المستورد. وتلك هي حال المجتمع المدني المسيخ الذي تموله أمريكا وأوروبا.
ولنعد الآن إلى موضوعنا. قارن ما يحصل في مبيعات المطابع بين الكتاب الديني ومبيعات الكتاب المزعوم تحديثيا ذي السود الكاسدة، وستجد الجواب، فالكتاب الكسيح هو الكتاب الذي لا يعتمد العلاج الفكري الحي فيطور الثقافة الأهلية حتى تصبح حاضنة للفكر المبدع بدل القطيعة واستبداله بغيره فعلهم في استنبات المجتمع المدني المسيخ الذي لا يلبي حاجة فعلية يطلبها مجتمعنا بل يحقق أجندة يريدها أعداء الأمة. لو كانت الثقافة الحديثة ثقافة حية ومتأصلة أيا كان مجالها بما في ذلك ما اختار من الفلسفات معاداة الدين أعني كل مبدعات العقل الإنساني بكل أصنافها وبلسان قومها وبتناسق مع المؤسسات التربوية التي تنمي العقل والوجدان واللسان القومي لكانت السوق القرائية مستوعبة للكتاب الحديث ولكان هذا الكتاب غنيا عن طلب المعونة من الدولة أو من الاستعمار ليبيع بضاعته الكاسدة والفاسدة في خلاء ساحتنا الثقافية. أكتفي بهذا لئلا أتجاوز المباح.