ليس خلعا للأبواب المفتوحة أن نزعم أنّ الفكر البشري إنما يتطوّر بتلاقح الأفكار وتجاورها واعتراكها واختصامها.
أنت هنا
قراءة كتاب بساتين الكلام - محاورات في الفكر والأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الجاحظ وسلطان البيان
في أطروحتكم "التفكير البلاغي عند العرب" توقفتم عند ما سميتموه "الحدث الجاحظي"، وخصصتم له قلب الأطروحة، إن صحّت العبارة، فهل يمكن أن تبيّنوا للقراء قراءتكم الخاصّة للجاحظ، خصوصا وأنه نال حظا من الدراسات العربية والاستشراقية (ميشال عاصي، طه الحاجري، شارل بيلا، ... وغيرهم كثير)، فما خصوصية قراءتك للحدث الجاحظي، وهل هذه التسمية تقوم على تناص مع تسمية ريجيس بلاشير "الحدث القرآني"، وكأنك تُلمع إلى محورية الجاحظ في الأدب والفكر البلاغي العربي، مثل محورية النص القرآني في الحضارة الإسلامية العربية؟
كانت الدراسات عن الجاحظ كثيرة وبلغات شتّى عندما بدأت في إعداد أطروحتي عن التفكير البلاغي عند العرب (1973). ولكنّ أغلبها لم يتناوله من الجهة التي كانت موضوع بحثي. ومن من الدّارسين تناوله منها زهد في البحث عن الخيط الناظم لمنتثرها والنسق التصوّري الذي تصدر عنه جلّ مواقفه في بلاغة القول وبيانه. وما كان للزهد في الوقوف على التصوّر الجامع ليلفت نظري لولا ما ترتب عليه من أخطاء في تأويل بعض آرائه وحملها على غير ما كان يجب أن تُحمل عليه. ومن أسباب ذلك الوهمُ بإمكانية أن تقرأ نصوص المدوّنة الجاحظيّة منفصلة. فلئن أمكن بكثير من التّسامح التّعامل مع "البخلاء" مفردا باعتباره كتابةً أدبية تقدّ من لغتها موضوعها وواقعةً على هامش مركز اهتمامه, وما هذا بصحيح تمام الصّحة, فإنّه لا يمكن فصل "البيان والتبيين" عن "الحيوان" ولا فصل هذين الأخيرين عن " الرسائل". وقد سمحت القراءة الشاملة للمدوّنة ووضع نصوصها بعضها بإزاء بعض، وربط كلّ ذلك بالسّياق المعرفي الذي كتبت فيه، بالوقوف على ما بدا لي الطّاقة المحرّكة والأصل الجامع لمواقفه اللّغوية وآرائه في جمال القول ونجاعته نعني بذلك ما سمّيته سلطان البيان. وهو سلطان فرض على الثقافة العربية الارتباط بأحكامه من ذلك الوقت إلى اليوم. وإن كان لأطروحتي من أطروحة فهي هذه. فصّلت القول فيها وبقيت أشتغل عليها وألفت نظر الباحثين إلى أهمّيتها منذ 1980. ويبدو أنّها كانت مقنعة إلى الحدّ الذي أغرى بعض الباحثين بتبنّيها واللهج بها في كلّ محفل مع السّكوت عن المأتى والأصل.
بهذا الاعتبار اعتبرت الجاحظ "حدثا" وعلى هدْي من هذا الذي وقفت عليه عنده الآتي من اهتمامه البارز بالمقام الخطابي في عصر كثر فيه السّجال والمنازعة والمناظرة ومقارعة الرّأي بالرأي, على هدْي منه دَرّست بالجامعة لسنوات مسائل تتعلّق "بسلطان البيان على الثقافة العربية الإسلامية" و"الجميل والنافع في الثقافة العربية الإسلامية" وكان ذلك بالمرحلة الثالثة لطلبة التبريز في اللغة والآداب العربيّة.
وأنا أسمّي هذا القسم من الأطروحة هذه التسمية، كان في ذهني لا شكّ ما قاله الأستاذ الجليل ريجيس بلاشير عن "الحدث القرآني" في مؤلّفة الذائع الصّيت: "مدخل إلى القرآن".