ليس خلعا للأبواب المفتوحة أن نزعم أنّ الفكر البشري إنما يتطوّر بتلاقح الأفكار وتجاورها واعتراكها واختصامها.
أنت هنا
قراءة كتاب بساتين الكلام - محاورات في الفكر والأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المقامات والتفاعل الأجناسي
كتبتم فصلا في دائرة المعارف الكونية الفرنسية (Encyclopaedia Universalis) عن المقامة وسبق لكم أن ألفتم "الوجه والقفا: في تلازم التراث والحداثة" خصّصتم جانبا منه لهذا الجنس الأدبيّ. ماذا يمكنكم أن تقولوا اليوم عن المقامات، من وجهة نظركم التي تجاوزت الطرح الأسلوبي، لا سيما وأننا نقف على محاولات في قراءة المقامات قراءة "تداولية" (نحو ما فعله محمد نجيب العمامي في قراءته التداولية للمقامة البغدادية)، تتفاوت في حظها من الطرافة، بين باحث وآخر؟
فصل دائرة المعارف الكونية جزء من مشروع أوسع أشرف عليه الأستاذ الصّديق المرحوم جمال الدّين بن الشيخ أستاذ الأدب العربي بجامعة الصّربون (باريس IV) ورئيس لجنة مناظرة التبريز لسنوات عديدة واشترك فيه الأساتذة شارل بلاّ - رحمة اللّه عليه - وأندري ميكال وهاشم فودة.
وكان نصيبي من المشروع النّثر العربي نشأة وأصولا جامحة. وقد جاء الحديث عن المقامة فيه عرضيّا إذْ اعتبرتها في جانب من جوانبها محاولةً لردّ النثر إلى الشعر أسلوب كتابة في نطاق ما سمّيته التدافع بين النثر والشعر في تاريخ الكتابة العربية وهو تدافع ظاهره أدبي وأصله في التّحوّلات العميقة التي كانت تجدّ بمفعول عوامل مختلفة متضافرة في بنية الثقافة والحياة عند العرب في نهاية القرن الثاني وبداية الثالث.
أمّا قراءة المقامات فقد ذهب فيها الباحثون مذاهب شتّى، والجزء الذي خصّصته لها في "الوجه والقفا" هو خلاصة درس كنت ألقيته سنة ( 1982 – 1983 ) على طلبة التبريز في اللغة والآداب العربية بدار المعلّمين العليا بباريس. الدّراسات عديدة وأهمّها لا شكّ دراسة الأستاذ المغربي المعروف عبد الفتاح كيليطو، وهي أطروحة ناقشها بباريس، ومثلها في الأهمّية دراسة الأستاذ المعروف أيضا محمود طرشونة التونسي، وهي أطروحته لنيل دكتوراه الدولة ناقشها بباريس أيضا، والدّراستان في الأصل بالفرنسية، وإن اختلفتا منهجا واتّجاها. وبعد هذا كثرت الدّراسات الجادّة، ومن آخر ما نشر منها دراسة الباحثة بسمة عروس وهي أستاذة تونسية تعمل بجامعة الملك سعود وقد تناولت المقامة في إطار قضية من قضايا النظر الأدبي المهمة هي قضية "التفاعل الأجناسيّ" وقد سعدت بالإشراف على هذا العمل وابتهجت غاية الابتهاج بما وصلت إليه الباحثة من نتائج.
فتنة المناهج الحديثة
كيف اتقيتم فتنة المناهج ما بعد الحداثية وظللتم متشبثين بالديكارتية منهجا نقديا عقلانيا، غذيتموه بمطالعات فلسفية عميقة (ريكور، ...) وجمالية (آيزر وياوس، ...)؟ وهل يمكن الحديث عن طفرات منهجية يعلق بها من كان حظه من العمق الفكري ضعيفا؟
لا أظنّ أنّ المناهج الحديثة فتنة ولا هي من باب أحرى بلاء يُتّقى بل إنّها ليست فتنةً إلاّ عند من غلب هواهُ عقلَه وليست بلاءً إلاّ إذا دخلها المرء مجرّدا أعزَل فيخبط فيها خبط عشواء. المناهج, ومناهج دراسة الأدب على وجه الخصوص, مكسب معرفيّ ليس من السّهل تقدير أثره في إعادة صياغة تصوّرنا للأدب ولفعل الكتابة.
والدّعواتُ التي نقرأها وما يصدر عنها من حين إلى حين والمشّنعة على المناهج وطرائق التعامل مع الأدب تعاملاً واعيا منخرطا في نظريات ثبتت كفاءتها الإجرائية وقدرتها التأويلية، هي ببساطة جهلٌ ومعاداة لما نجهل.
بقي أنّ التعامل مع هذه المناهج يقتضي عدّة أمور في طليعتها فهم ما تتأسّس عليه من تطوّرات وإدراك ما إليه تشير المفاهيم الجارية فيها ولا يتسنّى ذلك إلاّ بدرجة عالية من الوعي بالمحاضن النّظريّة التي تولدت منها والأصول الفلسفية التي تستمدّ منها مقرّراتها ووجوه ارتباطها بالأدب والفكر الذي انبنت عليه. وليس هذا بالأمر الهيّن فدونه معارف ضرورية بدونها نقع في سوء الفهم وإجراء الأمور على غير وجهها. كما تقتضي فهم الخصائص الكبرى للثقافة التي إليها تنتمي والأصول التي يقوم عليها فعل الكتابة عندنا لتجنّب أن نضيف إلى سوء الفهم والخطإ في التقدير الإسقاط والتعسّف. ولم تسْلم كثير من المحاولات العربية من الأمرين جميعا. ولقد كفتنا بعض الدّراسات المعتنية بتلقّي النقد العربي النقد الغربي مؤونة التفصيل وضرب الأمثلة. وبالمقابل نجد نقّادا تعمّقوا هذه المناهج في مظانها ولهم نباهة ومعرفة تحيط بأصولها وبناها المحتجبة فقدّموا مساهمات فيها شيء غير قليل من الإضافة وتعديل لبعض وجوه النّظرية بما يتناسب والنصوص العربية وربّما سمح لبعضهم بتعديل النظرية عندما امتحنوا كفايتها في فضاء يختلف عن المنشإ.