ليس خلعا للأبواب المفتوحة أن نزعم أنّ الفكر البشري إنما يتطوّر بتلاقح الأفكار وتجاورها واعتراكها واختصامها.
أنت هنا
قراءة كتاب بساتين الكلام - محاورات في الفكر والأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البحث وإشكاليات النشر
كيف تفسرون إقلال الجامعيين التونسيين عموما في النشر، بل وزهدهم فيه، هل هي تركة علماء إفريقية القدامى الذين عكفوا على تصحيح ما يأتي من المشرق، فصرفهم ذلك عن التأليف، أم إن الخشية التي لسان حالها "من ألّف فقد استُهدِف" كانت الدافع الأساسي، لهذا التوجّه؟
أظنّ أنّه من المبالغة الحديث عن زهد الجامعيين في النشر وإقلالهم منه. وليس صحيحا أنّ علماء إفريقية كانوا يكتفون بتصحيح ما يأتي من المشرق. فهذه مشهورات تحتاج إلى مراجعة.
إنّ الناظر في الخطّ البياني لما نشر وما ينشر منذ نشأة الجامعة يدرك المبالغة التي أشرت إليها. وأعتقد أنّ الحديث عن تصوّرين للكتابة والكتاب يكون أكثر فائدة في توصيف الاختلاف. فهناك من يعتقد أنّ كلّ كلمة يقولها وكلّ درس يلقيه على طلبته وإن كان من المشترك المعروف يستحقّ النشر ولا بدّ أن يوزّع على النّاس وهذه حال أغلب المُكثرين تقرأ الكتاب تلو الكتاب، ولا ترى فرقًا كبيرًا بين ما قالوه هنا وهناك، بل ما قالوه وما سبق إليه غيرهم من الدّارسين. وليس كذلك الأفذاذ من المكثرين وهم على كلّ حال قلّة القلّة. وفي الجامعة التونسية من هم على هذا الاعتقاد وعدد مؤلّفاتهم بعدد سنّي سنّهم تقريبا.
وهناك من يعتقد أنّ النشر لا يكون إلاّ للإضافة والمبتدَع من الآراء وقد يأخذ الأمر أشكالا عديدة. لذلك تراهم لا ينشرون بين الناس إلاّ ما هو من حقيق جهدهم وناتج فكرهم نبْوة على ما قال من سبقهم وأعملوا فيه الرأي واجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد. وليس الأمر بالهيّن وتزداد صعوبته إن كان المؤلّف من الحريصين على دقّة الصياغة وجمالها. ولذلك ترى الأستاذ منهم لا ينشر إلاّ عددا من الكتب يختلف لا محالة باختلاف الأجيال ولكنّها كتب تحمل معرفة حقيقية وجهدًا خالصا لتطوير المعرفة أو على الأقلّ إعادة إنتاجها على مغاير. وأنا شخصيا من أشدّ الناس حرصا على ألاّ ينشر الباحثون الذين أشرفت عليهم إلاّ ما يعتقدون أنّ فيه إضافة إلى ما هو مشترك معروف.
البحث الجامعي: الإشراف والتأطير
أنتم من أكثر الأساتذة حضورا في مناقشة الرسائل الجامعية في قسم العربية في كلية الآداب بمنوبة مشرفا أو مقررا أو رئيسا أو عضوا؛ ماذا أضافت لك المناقشات الجامعية؟
أضافت أشياء كثيرة؛ فلقد أصبح حولي كثيرٌ من الصديقاتِ والأصدقاءِ ممّن أشرفتُ عليهم، فأنا مؤمنٌ عميقَ الإيمان بأنّ العلاقة العلمية يجب أن تتحوّل إلى صُحبة بالمعنى الذي كان للكلمة عند القدماء. ثمّ إنّ هؤلاء الذين قبلوا البحث في نطاق المشروع الذي وضعتُ خطوطه الكبرى، عمّقُوا الكثير من جوانبه وأضاءوا المناطق المعتّمة فيه وطوّروا منهج التعامل مع كثير من قضايا؛ فبفضلهم أصبحت قسماتُ الموضوعِ أوضحَ ومسائلُه أمْتنَ ونتائجُه أكثرَ إقناعا. وأعانني على ذلك اعتقادي الرّاسخُ بأنّ المشروع مِلكٌ لكلِّ الذين ساهموا في وضع لَبِنَاته وأنّ الأفكار الدّائرة في فضائه مِلكٌ لكلِّ من انتمى إليه.
أمّا المساهمةُ في مناقشةِ مَن لم أُشرفْ عليهم، فقد مكّنتني من معرفة مشاريع معظمِ زملائي في جُملها وتفاصيلها، وليس هذا بالأمر الهيّن، وثمنُه قراءةٌ مسترسِلةٌ في آلافِ الصّفحات وتقليب النظر فيها استعدادا للمناقشة. إنّ ثمنَ هذا مرتفعٌ ولكن لا معنى لهذا الثمن إذا ما قورن بما حَصُل من ريْعٍ علميٍّ مُطَمْئن.
أشرفتم على فريق البحث في التداولية والحجاج، ثم في تحليل الخطاب وخلفكم في الإشراف الأستاذ الدكتور شكري المبخوت عميد كلية الآداب بمنوبة. هل ثمة آفاق معرفية فتحتها انشغالاتكم وهل من نتاجات علمية، وهل ترون أنّ السجالات العلمية النزيهة تقويّ شوكة البحث وتعضد جهود الباحثين؟
نشأتُ على عقيدةٍ تقرن التدريسَ في الجامعةِ بالبحثِ والمثابرةِ فيه، بل لعلّي من الذين يُؤمنون بأنّ التعليمَ في الجامعةِ بدون بحث متواصل يؤول إلى تعليم لا روح فيه لأنّه سيقوم على الرّضى بالموجود ومحاكاة ما يرد في الكتب بينما الأستاذ في الجامعة مطالَب بأن يجتهد ويضيف ولا يتسنّى ذلك إلاّ بالبحث والتفاني فيه.
من منطلق هذه العقيدة، كنتُ من السبّاقين في بعث فِرَقِ بحثٍ، وإن بطريقة غير منظّمة في البداية. وما كان ذلك ليكون لولا وجودُ زملاءَ لهم نفس الحماس ويحملون نفس العقيدة. فكان أن تكوّن، من بداية الثّمانينات، فريقٌ عن الإنشائية ونظريات الأدب، وكانت حصيلتَه كتابٌ صادف لدى الناس بعضَ القَبولِ بل الرواج وعنوانه: "دراسات في الشعرية: الشابّي نموذجا". ثم جاءت الأشكالُ المؤسساتية من البحث، فكوّنتُ مع ثلّة من الباحثين الأصفياء فريقَ البحث في البلاغة والحجاج، وأصدرنا جملةً من المؤلَّفات، لعلّ من أبرزها "نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم" و"الحجاج في المقام المدرسي" و"البلاغة وثقافة الفحولة"... المؤلّف الأول جماعيٌّ، والمؤلَّفان الآخران من تأليف باحثين مُنتمين إلى وحدة البحث، نُشرت أعمالهم بتمويلاتها التي تضعها الإدارة العامة للبحث العلمي بوزارة التعليم العالي على ذمّتها. وتطوّر الفريق وأصبح وحدة وكان لا بدّ أن تكون في تحليل الخطاب لأنه الاختصاصُ الذي آلت إليه الدراساتُ البلاغيةُ والتداوليةُ وغيرُها.
ورأى المشرفُ على الوحدة أن يُعوّضني، لبلوغي سنّ التقاعد، الأستاذ شكري المبخوت، وهو مَن هو في الدراسات اللغوية والتداولية، مؤلَّفاتُه – على صِغَر سنّه النسبيّ – عديدةٌ وكلُّها فكرٌ حَيٌّ ومعرفةٌ واسعةٌ عميقةٌ وجرأةٌ في الرأي ومراجعة الوافد علينا في اختصاصه مراجعةً تدعو إلى كثير من الإعجاب. وأنا على يقين من أنّ الرؤوس العلمية الكثيرة المتوفّرة بكلية الآداب والفنون والإنسانيات، ستواصل العملَ بصورةٍ أعمقَ وأشملَ، لأننا وصْلنا في تقديري إلى مرحلة إنتاج المعرفة بعد أن قامت أجيالٌ مناضِلةٌ باستعادتها على وجهها الأكمل.