الشكر موصول لمجموعة من الأساتذة الذين تعلمت منهم علم النفس في مراحل مختلفة من حياتي· أخص منم في جامعة الخرطوم بالسودان أستاذي الجليل د· الزبير بشير طه الذي تعلمت على يديه مبادئ البحث العلمي من خلال إشرافه على رسالة الماجستير التي قدمتها لجامعة الخرطوم كما ت
أنت هنا
قراءة كتاب علم النفس التجريبي في التراث العربي الإسلامي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
علم النفس التجريبي في التراث العربي الإسلامي
مالك بدري: جحر الضب الذي دخله علماء النفس
يعتبر مالك بدري رائدا لحركة تأصيل، أو بلغة أخرى، أسلمة علم النفس· ومن مؤلفاته الممتازة باللغة الإنجليزية (الإسلام وعلم النفس التحليلي)، و(الإسلام وإدمان الكحول) ولكن يبدو أن أهم مؤلفاته ترجع إلى سلسلة المقالات الرائعة التي نشرها في (مجلة المسلم المعاصر) عام 8 7 9 1 بعنوان (علماء النفس المسلمون في جحر الضب)· ويأتي العنوان الغريب لهذه المقالة، حسب قول بدري (8 7 9 1)، من الحديث النبوي الشهير الذي تنبأ فيه محمد (ص) أنه سوف يأتي يوم يقوم فيه المسلمون بالتقليد الأعمى لأساليب المسيحيين واليهود وصفاتها غير الإسلامية وقد صور ذلك جيدا في قوله ([) (حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) أو كما قال· ولقد تم توسيع وتنقيح هذه المقالات بواسطة بدري ونشرت في كتاب (The dilemma of Muslim psychologists" عام 9 7 9 1 ، وبعد عشر سنوات من تأليف الكتاب ترجم للعربية بواسطة منى أبوقرجة (9 8 9 1) بعنوان (مشكل أخصائي النفس المسلمين) ولقد أصبح كتاب بدري الآن (كلاسيكيا) بالنسبة للمهتمين بحركة تأصيل أو أسلمة علم النفس· وحذر بدري في كتابه كل من دخل في جحر الضب من أخصائي النفس المسلمين ألا يظلوا قابعين في جحورهم· والأطروحة الرئيسية في كتاب بدري هي غياب الجانب الروحي في علم النفس الغربي ومحاولة بلورة وتطوير مفهوم ملائم لعلم نفس إسلامي·
عالج بدري في كتابه عدة أفرع مختلفة لعلم النفس التي دخلها علماء النفس المسلمون بعناوين مدهشة مثل (عالم لنفس المسلم كسلوكي)، (عالم نفس الطفل المسلم في جحر الضب)، (عالم النفس المسلم التربوي الذي يردد صوت سيده) كما تناول نظريات وأفرعاً أخرى مثل القياس النفسي، والتحليل النفسي· ولقد تساءل بدري ماذا نعمل كعلماء نفس مسلمين تجاه علم النفس الغربي· ولم يكتفِ بدري بنقد أفرع علم النفس المختلفة فحسب، وإنما قدم إسهاما جديرا بالبحث في العلاج النفسي من واقع تجربته كإكلينيكي، وذلك في الفصل في كتابه المعنون بـ: (علم النفس في خدمة الإسلام) وفضلا عن ذلك عالج الكيفية التي يمكن بواسطتها أن تخدم بعض موضوعات علم النفس الإسلام مثل العلاج النفسي والقياس النفسي وعلم النفس التربوي وعلم النفس الاجتماعي والشخصية·
ولم يكتفِ بدري (9 8 9 1) بدخول علماء النفس المسلمين (جحر الضب) فحسب، إنما قدم تصنيفا ذكيا للمراحل التي يمر بها علماء النفس في محاولات المقاربة أو التوفيق أو التلفيق· ولقد قسم مراحل علم النفس بالنسبة لأخصائي النفس المسلمين إلى ثلاث هي: الافتنان والوفاق والإعتاق· وبالنسبة للمرحلة الثانية المتعلقة بالوفاق يسعى علماء النفس فيها لسد فجوة التنافر المعرفي· وذلك بإيجاد حل وسط مصطنع يقرب بين الإسلام ونظريات علم النفس الحديث· ويذكر هؤلاء العلماء في سعادة أن ليس هناك أي تناقض خطير بين الإسلام ونظرية يونغ، أو أن القرآن يدعم النظرية الفرويدية المتعلقة بتقسيم الشخصية إلى ثلاثة مكونات ، هي (الهو) و (الأنا) و(الأنا العليا) وللبرهان على هدفهم ربما يقتبسون الآيات القرآنية التي تتحدث عن (النفس الأمارة بالسوء) و(النفس اللوامة) و(النفس المطمئنة) · وفي بعض الأحيان ربما يحرفون معاني الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، أو على الأقل فإنهم يسعون إلى إيجاد معنى يعيد التصور من أجل أن يخففوا من وطأة إحباطهم وتنافرهم المعرفي· فيا ترى ما هو الموقف من أمثال هؤلاء العلماء؟ يحذر بدري من الهجوم على هؤلاء العلماء لأنهم في منتصف الطريق ···نصفهم داخل جحر الضب ونصفهم الآخر خارجه، بل ويجب تشجيعهم ليشعروا بالاطمئنان أكثر إذا ما خرجوا من الجحر·
ويدهش الإنسان حين يجد بعض علماء النفس الذين قرؤوا فرويد بدقة وحفظوا بعض أقواله المترجمة ولكنهم مع ذلك لا يشعرون بأي صراع أو ذنب باعتبارهم مسلمين أتقياء· وهؤلاء العلماء جعلوا حياتهم العاطفية والعقلية في اتجاهين منفصلين، أو أنهم نجحوا في خلق نمط من الشخصيات المزدوجة غير الباثولوجية من الناحية الظاهرية (بدري، 8 7 9 1)· وربما يرجع السبب في ازدواج شخصيتهم إلى عدم تحديد موقف سيكولوجي أو فلسفي واضح· وقسم أبو حطب، موقف مثقفي الوطن العربي إلى موقفين متضادين من التراث: رفض التراث لعدم مواءمته حاجات العصر، أو قبول التراث دون تمييز، ففيه كل الإجابات على تساؤلات العصر، وقد ظهر هذان الاتجاهان في علم النفس كما ظهرا في غيره من العلوم الإنسانية والاجتماعية· إن خطر أصحاب الاتجاه الثاني الذين يميلون إلى تقديس تراث العلماء العرب والمسلمين ليس أقل خطرا من أصحاب الاتجاه الأول· إنهم يعتبرون أن كل ما صدر من ترا ث العلماء السابقين من حضارتنا أفضل وأسبق من أي إنجاز سيكولوجي حديث· فهم يرون أن ابن الجوزي مثلا- في كتابه الأذكياء- أفضل وأسبق - عند أصحاب هذا الاتجاه- من جميع علماء النفس المعاصرين الذين اهتموا بقياس الذكاء والقدرات العقلية (أبو حطب، 3 9 9 1)· وإن بعض الذين يقدسون التراث ربما يصفون علم النفس بأنه كافر·
وفقا لرواية بدري قال معلم تربوي عربي ذات يوم بعد محاضرة عامة ألقاها الأستاذ محمد قطب، إننا كمسلمين، لسنا في حاجة إلى علم النفس الحديث· وإن ذلك الموضوع، بجميع فروعه، يعد كمجموعة من النظريات والممارسات التي تعتبر نتاج المدنية الغربية الأجنبية (الكافرة) وقد حث بقوة على إلغائه من مناهج دراسة تدريب المعلمين في السعودية إلى أن يحين الوقت عندما يضع العلماء المسلمون كتبا جديدة في علم النفس قائمة على أساس المذهب الإسلامي (بدري، 8 7 9 1)· صحيح إن بعض المتسرعين أو المتشددين ربما ينظرون لعلم النفس الحديث أو الغربي بأنه كافر أو فاجر أو فاسق· وقد يكون (للمكفراتية) الحق إذا قالوا إن القسم الرابع والأربعين (رقم 4 4 ) في الرابطة النفسية الأمريكية الخاص بالشواذ جنسيا هم كفار· لأنهم غيروا مفهوم اللواط والسحاق بمفهوم التفضيل الجنسي· أو أن فرويد في (مستقبل وهم) هو كافر، لأنه ذكر بأن الدين عبارة عن (عصاب جماعي)، أو أن علماء النفس في قسم (علم النفس العسكري) الذين يزيدون من فعالية الحروب وإبادة الشعوب المسلمة هم كفار· أو أن علماء النفس كاملو الدوام بالمخابرات المركزية الأمريكية والموساد والذين يخططون ويبرمجون لعمليات الإرهاب في العالم العربي هم كفار·
ولكن السؤال هو كيف يكون علم النفس الفسيولوجي كافرا وعلم النفس النيورولوجي فاجرا وعلم نفس الحيوان فاسقا؟ فإذا كان ذلك صحيحا فسيصدق القول على ابن سينا في فسلجة الدماغ، وابن الهيثم في السيكوفيزيقا، والبلدي في علم نفس الطفل، والبلخي في الإرشاد النفسي· فمعكوس (أسلمة) هو (كفرنة)، وتبعا لذلك نجدد التساؤل بالنسبة (للمكفراتية) ، كيف يمكن (أسلمة) علم النفس الفسيولوجي أو علم النفس النيورولوجي أو علم النفس التجريبي أو علم النفس المقارن أو علم النفس الرياضي أو علم نفس الطيران أو تحليل التباين أو العلاقات الارتباطية ؟ وهناك مشكلة بالنسبة لغلاة التراث أو المتشددين وغلاة المعاصرة أو الحداثيين· فالمشكلة هي عملية النقل سواء أكان نقلا من الماضي أو نقلا من الغرب: ومهما يكن فهما نوعان من التبعية المتعسفة، الأولى زمانية، والثانية مكانية· فيا ترى هل من هواجس لحل هذه التبعية؟