تنطلق هذه الدراسة من فرضية أساسية مفادها : إن فكرة أرض الميعاد تعد من أهم المرتكزات الفكرية التي استند عليها الفكر الإسرئيلي المعاصر، و لذلك تسعى هذه الدراسة للإجابة عن جملة تساؤلات منبثقة من هذا الافتراض العلمي لعل اهمها ما يأتي:
أنت هنا
قراءة كتاب أرض الميعاد في الفكر الإسرائيلي المعاصر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أرض الميعاد في الفكر الإسرائيلي المعاصر
ثالثا : الوعد الإلهي في المدونات القبالية :
بعد أن سيطر (التلمود) سيطرة شبه تامة على اليهود بعد ميلاد المسيح (عليه السلام) بدأ التراث القبالي في الحلول محله ، والقبالة : هي علم التأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود ، وتمثل الازدهار الأقصى للتفكير الأسطوري في اليهودية(58)، ومع هيمنة القبالاه تعمق اﻹرتباطبالأرض ، وتعمقت قداستها ، وذلك عن طريق فكرة(الحلولية الإلهية) في كل من الشعب والارض(59) .
فـ (الإله) حسب التصور القبالي ليس الإله المفارق المتسامي الذي ليس كمثله شيء ، وإنما ينظر اليه من منظورين :
بإحتسابه (اولا) : الإله الخفي والجوهر الذي لا يستطيع اﻹنسان إدراك كنهه ، وهذا إله الفلاسفة ، واﻹله الواحد الذي لا يتجزأ ، وهو في رأي القبالة (حالة ساكنة تفتقد الى الحيوية) ، وهو الخالق في حالة إنكماش قبل عملية الخلق ، كما ينظر اليه بإحتسابه (ثانيا) : اﻹله القريب الحي ، القريب بسبب وجوده الذاتي ، وتعدديته ، فهو بنية داخلية مركبة ، ودينامية ، وهو عملية عضوية تؤثر في العالم ، وتتأثر فيه ، وهو تأثير مادي (لوجوس)(*) يحل في المادة (سواء كانت الشعب اليهودي ام الظواهر الطبيعية أم إسم اﻹله اﻷعظم من يكتشفه يتحكم بالكون بأسره)(60) .
ويؤمن القباليون ، وذلك واضح في كتاب (الزوهار)(*) : إن الله قد خلق العالم عن طريق الفيض الإلهي ، وفكرة (الفيض) تفترض وجود وحدة تنظم المخلوقات كلها ، بل تنظم ايضا اﻹنسان والاله الخالق حتى يصبح اﻹله ومخلوقاته هما الشيء نفسه(61) ، اذ خلق الله العالم عن طريق إنسحابه ، فترك فراعا ثم فاض بالمراحل العشر (السفيروت)(*) ، وكان الكون كلا متكاملا لكن الضوء اﻹلهي كان قويا جدا لدرجة كبيرة حتى ان الأوعية كلها ، أي ( مراحل السفيروت) تحطمت مما أدى الى تبعثر النور الإلهي ، والشرارات الإلهية في كل مكان ، وفي كل شيء بما فيها (الأشياء الشريرة) ،ولن تعود هذه الشرارات إلا بعوده المسيح (عليه السلام) ، بل أن مسار التاريخ كله يتجه نحو إعادة الشرارات الى مكانها الأصلي(62) .
ويرى القباليون أن ثمة إتحادا متوازيا متقابلا بين اﻹله ، وكل مخلوقاته ، وان السماء تشبه الارض ، واﻹله يشبه الإنسان ، والتاريخ يشبه الطبيعة ، وتقول إحدى افكار التراث القبالي الاساسية : (كما في السماء كذلك في اﻹرض ، وكما في الداخل في الخارج) ، فالاشياء كلها يسري فيها العنصر اﻹلهي ، والانسان يشبه اﻹله في كثير من النواحي ، وبسبب هذه الصلة نجد ان عقل اﻹنسان في اﻹرض يمكنه من التأثير في العوالم العليا ، أي العلاقة بين اﻹنسان والخالق علاقة تبادلية كل يأخذ من الآخر ، ويعطيه ، ولعل هذا ما يفسر لجوء القباليون الى إسرار الكون وممارسة السحر بعدّها طريقة عملية لأدراك اﻹله والتوحد معه(63) .
هذا وقد لعبت القبالاه دوراً حاسماً في تحويل اليهودية من نسق توحيدي الى نسق حلولي كموني ، وتراث (القبالاه) تراث حلولي كموني واحدي متطرف يساوي بين الإله والطبيعة بحيث يصبح اﻹله هو الطبيعة ، ويتم إلغاء التاريخ ، ويتركز الحلول الإلهي في الشعب اليهودي ، إذ يحل المطلق أو المركز (الله) في النسبي (الشعب) ، والمقدس(الله) في المدنس (الشعب) حلولا تاما(64) ، ومن ثم ، فإن الشعب لا يشارك في القداسة فقط ، وإنما يتوحد مع الإله تماما ، ويصبح في قداسته ، وإذا كانت (القداسة) هي الصفة اﻹلهية التي تفصل اﻹله (المطلق) عما هو غير مقدس (دنيوي نسبي) ، فإن الشعب اليهودي قد سرت فيه هذه القداسة ، وأصبح يتسم بهذا الانفصال حينما عقد اﻹله العهد معه ، وبذلك انقسم العالم الى قسمين : اليهود المقدسين / الذين يعيشون داخل دائرة القداسة ، والأغيار / الذين يعيشون داخل التاريخ فقط ، وخارج دائرة القداسة ، والارض التي يقطنها الشعب اليهودي (أرض الميعاد) أصبحت هي الأخرى (اﻹرض المقدسة) التي لا تسري عليها القوانين التاريخية النسبية العادية(65) .
وهكذا حينما يحل الله في الشعب ، وفي اﻹرض ، وعندما تبلغ الفكرة منتهاها يصبح (الله) هو (الشعب، واﻹرض) وهذا هو ثالوث وحدة الوجود (اﻹله ، والشعب واﻹرض).
وقد ورثت الصهيونية (*) هذا المفهوم الحلولي للقداسة ، والذي يتركز في الشعب المقدس ، واﻹرض المقدسة ، وفي زمانه او تأريخه او روحه المقدسة ، ولكن الصهاينة قاموا بعلمنة هذا المفهوم الحلولي بحيث يترك مصدر القداسة غير محدد : فهو الخالق بالنسبة للمتدنيين ، وهو روح الشعب أو أيه مقولة دنيوية اخرى بالنسبة للملحدين ، والقداسة تحل ايضا في مختلف الممتلكات القومية التي يملكها الشعب ، ومن هذا المنظور الحلولي يمكن أن نفهم مصطلحات صهيونية ، مثل (الحدود التاريخية) ، و(إسرائيل الكبرى) ، فالحدود التاريخية هي الحدود المقدسة ، و(إسرائيل الكبرى) هي اﻹرض المقدسة(66) .
وعليه ، فإن (الوعد اﻹلهي) في المصادر القدسية اليهودية اتسم بالسمات الاتية:
1. انه وعد مادي يعطي (لبني إسرائيل) الحق في ملكية فلسطين وما حولها .
2. ان وعد الله ليس وقفا على (إبراهيم ) ونسله ، وإنما (لبني إسرائيل) الحقوق نفسها بغض النظر عن مدى احقيتهم بإستثناء (إسماعيل ) وذريته .
3. الوعد مفتوح لا حدود له، ولا شروط ، وليس هناك أي إلتزامات من جانب (إسرائيل) إعتمادا على فكرة (الشعب المختار) .
4. وهكذا تحول (الوعد الإلهي) بملكية أرض (فلسطين) ، وما حولها من مجرد منحه إلهية الى حق مطلق يستحقه الشعب اليهودي على حد زعمهم .