إذا كان للتاريخ سلطان، فمن الطبيعي أن تكون له سلطة.
أنت هنا
قراءة كتاب سلطة التاريخ
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
ولا بدّ من أن نشير هنا إلى أنّ مفهوم التاريخ عند مؤرخي الإسلام قد ركّز على العبرة، وعلى الجانب الأخلاقي الذي يمكن أنْ يستنبط من وقائع التاريخ، فمسار التاريخ لا بدّ أن ينطوي على حكمة ما(24). وهي الفكرة نفسها التي أخذ بها "هيجل" في ما سمّاه "التاريخ العملي أو البرجماتي"، الذي يهتم باستخلاص الدروس الماضية التي يمكن أن يستفاد منها في الحاضر.(25)
4- أمّا المفهوم الرابع للتاريخ الذي أفرزته الرواية فهو المفهوم "الزمانيّ"، وقد راوحَ مَن نظر إليه من هذه الزاوية بين أن يكون التاريخ "ذكريات"، أو أن يكون "ذاكرة"، وفرقٌ ما بينهما كبير. ف"الذاكرة" رؤيةٌ تستحضر الماضي إلى الحاضر المعاصر، فينبعث حيّاً في الحاضر، ويتمّ إسقاطه على القضايا المعاصرة. كما تستند "الذاكرة" إلى تاريخ الأمة وثقافتها وحضارتها وفكرها وعقيدتها وشخصياتها التاريخية لتشكّل بذلك هويّتها. أما "الذكريات" فتحوّل التاريخ إلى عاطفة، يعود إليه الإنسان حين تهيج عواطفه ويحنّ إليه. وعلى كل حال تبقى "الذكريات" حبيسة الماضي.
تمثل التاريخ، في الرواية، في صورة "ذكريات" في أحيان كثيرة، وترك آثاره في طريقة التعامل معه، واستحال مناسبةَ حنينٍ إلى زمانِ ماض مفقود، مع الاحتفاظ بكل ما يذكّر بالماضي، من مفاتيح وصور وصناديق ومكنونات المخيّلة، إلى حدّ ظلّ سيلُ الحنين والذكريات يفترس حياةَ الشخصيات أمداً بعيداً. لم يتحوّل التاريخ إلى "ذاكرة" يُبعث حيّاً، ولا إلى معاصرٍ يتمّ إسقاطه على قضايا الحياة المعاصرة، إلاّ في حالات نادرة، مع أنّ الرواية تطمح إلى تحويله إلى "ذاكرة" كي لا يظلّ حبيس "الذكريات".
كاد يونس، وهو من مناضلي الثورة الفلسطينية، أن يسقط في دائرة النسيان وأن يتحول إلى شبح من الماضي وأن تطويه متاهات الصمت، بدليل ما كان ينتظره في مشفى العجزة أو المجانين، مما عبّر عنه خليل، الذي كان بمثابة ذاكرة يونس، بغضبٍ (هل نحن شعب بلا ذاكرة؟... أنت وأنا في هذا العالم الذي يقذف بنا إلى النسيان. أنت محظوظ يا سيد يونس. هل تستطيع تخيُّل نفسك من دوني؟ لو كنت مكاني، فقط لفهمت أن الأصعب لم يأت بعد.... وتأتي الذكريات. هل تريدني أن أصنع حياتي من الذكريات؟ أعرف أنك سوف تنتفض وتقول إنك لا تحب الذكريات، فأنت لا تتذكر لأنك تعيش، رقصت كل حياتك على حبال الموت، لم تقتنع أن النهاية جاءت، كي تجلس على رصيفها وتتذكَّر. "نحن لا نتذكر سوى الموتى"، قلت لي، لكن لا، أنا هنا على خلاف عميق معك، فأنا أتذكر عبرك كي أعيش.)(26). ويقول يونس أيضاً (لم أعد كي أنهي حياتي في الذكريات، عدت كي أبدأ، كي لا أنسى الطريق)(27)، بمعنى أنّ "الذاكرة" تتجه نحو المستقبل بعد أن تستحضر الماضي وتفعّله، في حين أنّ "الذكريات" عبورٌ نحو الماضي مع البقاء فيه.
تمجّد الرواية رموز الذاكرة الحيّة لأنها تتجه نحو المستقبل، وتشفق على من يتعلّق بالذكريات، لأنها تتوقف عند أعتاب الحنين العاطفي، مثلما أشفقت "نهى" على الرجال (لأنكم تعيشون في الذكريات، ولا تجدون غير الماضي متكأً لحياتكم)(28). وهكذا، يبدو أنّ الجدّة كانت تستمد وجودها من ارتباطها بالماضي، لهذا كانت حريصة على أن تشمّ رائحة فلسطين في مخدتها المحشوّة بالأزهار الفلسطينية عندما تتوسّدها، وحرصت أن تودعها لدى الراوي قبل موتها. بدا الفلسطينيون في الرواية وهم "يسقون صورة ماضيهم ماءً" فقد كانت جدة خليل تسقي صورة والده الميت، لعل الماضي ينهض من جديد ويحتل الحاضر (29).