إذا كان للتاريخ سلطان، فمن الطبيعي أن تكون له سلطة.
أنت هنا
قراءة كتاب سلطة التاريخ
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
وفي "فضاء الموت" هذا، ومن هذا الركام الفجائعيّ رسمت الشخصيّة الفلسطينيّة شكل علاقتها بالتاريخ، فكانت عدائيّة تقوم على الصراع. ومن هذا الركام نفسه، تشكّلت في ذهنها صورة التاريخ، فارتبطت بالوحش والكلب والدمّ، رأته ظالماً، مشوّهاً، يكتبه الأقوياء، فيطمسون الضحايا في حياتهم وفي موتهم، وتُنسى قصصهم بمذابح أكبر، وتُقام في الجهة الأخرى النصبُ التذكارية للقائمين على مؤسسة الموت ظناً منهم أنهم بأفعالهم هذه يدخلون التاريخ (ونحن شعب قرّر أن ينسى من كثرة ما تراكمت عليه النكبات، مذابح تمحو مذابح، ولا يبقى في الذاكرة سوى رائحة الدم) (10). دون أن يدري هؤلاء أن الحرب قبرٌ ولا تحتاج إلى أضرحة وشواهد.
ولنا بعد ذلك أن نتصوّر قسوة التاريخ على شخصية ترى آمالها لا تتحقّق إلاّ في فضاءات الموت، و"الوحدة" لا تتجسّد إلاّ في مذابح جماعية ومقابر جماعية، ويصير الحصول على مقبرة "نصراً" و"فوزاً"، ولا غرابة، بعد ذلك، أن تتحوّل، في نظر هذه الشخصية، رموز الحياة والولادة إلى رموزٍ للموت، لذا لم ترَ أم أحمد السعدي في بطنها نبعَ حياةٍ، بل "مقبرة" تفوح منها رائحة الموت والدم بدل رائحة الولادة، فصارت، بعد أن فقدت أبناءها، ترى أنها تنجب الموت لا الحياة، كانت أمّ أحمد السعدي بحقّ أكثر حزناً من مقبرة (الحمد لله أننا استطعنا جمعهم في موتهم،كما جمعهم الدهر في حياتهم)(11)، تزغرد وتهتف (انتصرنا وصار عندنا مقبرة)(12).
إيقاع الموت حاضرٌ في الرواية، يساوقه إيقاعُ الرحيل. في الرواية موتى وراحلون، وفي الرواية بؤسٌ مقيم تمثل في صورة امرئ يخرج من بيته حافياً، في ليلة ماطرة، قدماه تغرقان في الوحول، يركض باتجاه قبر، يمدّ يده كي يمسك بحبال المطر(13)، في صورة تذكّر بصورة الفتاة العارية التي طالعتنا بها رواية "ثلاثية غرناطة" في صفحتها الأولى.
وعلى الرغم من معاناة الشخصيات من جراء النكبات التي تعرّضت لها، إلاّ أنّها حملت أسماء توحي بالأمل وتُقبِل على الحياة وترفض الموت، وتتمحور حول "السلامة" و"النجاة" و"السعادة"، مما يدفعنا إلى التساؤل: أين "سلامة" يونس المُكنّى ب"أبو سالم" الذي لم يسلم من المرض؟، وأين "نجاة" أم حسن التي كانت تُكنّى أيضاً ب"أم ناجي"، التي لم ينجُ أحدٌ من أبنائها الأربعة؟، وأين "سعادة" أمّ أحمد السعدي، بعد موت أبنائها السبعة"؟ وأخيراً، أين "سلامة" سليم بعد مقتل أهله في المذبحة"؟، أمّا خليل فهو صديق يونس ورفيقه وممرّضه وطبيبه.
ويلفت النظر أيضاً ما يتعلّق ببنية المجتمع الفلسطيني، فالنكبات والمصائب التي حاقت بهذا المجتمع جعلت أبناءه يشعرون أنهم جسدٌ واحد، فقد تفرّغت أم حسن للعمل "قابلة قانونية" في المخيم تستقبل المواليد الجدد، وكانت ترى أبناءها الأربعة الذين فقدتهم في كلّ أبناء المخيم، وبذلك صارت الأمّ الفلسطينية أمّاً لكلّ أبناء المخيم، وصار الأبناءُ أبناء لكلّ الأمهات، وبذلك تتكامل دورة الحياة في المجتمع الفلسطيني بين موت وحياة.
يثير وقوفُ الرواية أمام وقائع التاريخ وضحاياه، وأمام الموت والرحيل، لدينا شهوةَ الحديث عن التاريخ كما ظهر في الرواية، وهو ما يشكّل موضوع حديثنا القادم.