رواية "انكسارات صبي"؛ ... بعد عشر سنوات مِنَ الانقطاع التام، لم يحتج إلى أكثر مِنْ خمس دقائق، وهي المدّة التي استغرقتها المكالمة ليفهم مِنْ حديث صديقه عن أولاده الثلاثة، كيف يأكلون ويشربون ويضحكون، أن ثمة متغيّرات دراماتيكية لا مكان له فيها.
أنت هنا
قراءة كتاب انكسارات صبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عند الساعة السابعة مساءً أدخلوهم قاعة نوم تتسع لمئة وعشرين ولداً مخنوقين بالغصّة، يأوون إلى أسرّتهم بعد قيلولة ما بعد الظهر، حيث فرضت إدارة المؤسسة على كل ولد أن يغمض عينيه عنوةً لساعتين، والويل لمن ترمش جفونه، فعقاب الكذاب حرمانه مِنَ «العصرونية»، وهي عبارة عن قطعة خبز صغيرة محشوة بالدبس أو مربى السفرجل، أو أي مِنَ الحلويات التي يحتاج إليها الأولاد ليعوضوا طاقة لم يصرفوها في التسلية واللعب أو اللهو، إنما استنفدوها في التحفّز والخوف مِنَ القصاص المنتظر في كل الأوقات، في يقظتهم... وفي نومهم... حتّى الطعام تحول إلى موعد مع العذاب بعد أن فُرض على كل ولد أن يلتهم المتوافر في صحنه، وإلا تعرّض لضربات «هدية» بعصا غليظة، كانت تعمد بعدها إلى حبس الجاني ومنعه من الخروج إلى الملعب ثلاث ساعات.
ولأن موسى كان كغيره من الأولاد لايستطيب أكل اليخنة أصلاً، كان على موعد مع الحبس ثلاث مرات في الأسبوع، خصّته «هدية» بقسط وافٍ مِن لؤمها، بعد أنْ أخفقت في منعه مرةً مِنَ التقيؤ عندما أجبرته على حشو فمه بقطعة دهن مطهوة كانت في يخنة اللوبياء.
لم تفارقه سوداويته، لأنه ليس في مقدوره أن يشكو مِنْ ألم أو جوع، ولا مجال له لأن يزفر غصّته في حضن أمه البعيدة، كما لا وجود لإخوة يحمونه من ظلم أولاد أشقياء، راقهم أن يسخروا من لهجة صبي، تمسك بلسانه الريفي تمسكه بروح الانتماء إلى دفء عائلته.
لن ينتمي موسى إلى المدينة وأهلها، ولن يساوم على «لكنة» ضيعته، بعد أن أضحت مقترنة بما هو أبعد من الخطأ والصح، فكيف لقاموس في الدنيا أن يغالط لسان أمّه التي كانت تحيق به في الليالي الباردة بأنفاسها الدافئة وهي تحدو له قائلة: «تبحشلي يا موسي». بهذا قد نفهم عجز لسان الكبار عن تصويب مخارج الكلمات التي تعلموها وهم صغار.
أجلستهم هدية القرفصاء إلى أن يحين دور كل واحد منهم لتنظيفه من القمل المتغلغل في فروة رؤوسهم. هوذا الافتراض الذي حدا بـ «هدية» إلى دهن شعر الجميع بإسفنجة كاز، تتركهم بعدها منقوعين ساعتين. ولما كانت البلّة الواحدة تدور على أربعة صبيان، شاءت الصدفة أن يكون موسى أوّل أربعة، فنال عصرة مخضبة بكمية أماتت إحساسه بنفسه. شعر بأنه خرقة بخسة وهو بين يدي امرأة بغيضة تزدري عملها ولا تهتم بنظافة أحد، كانت مدفوعة بهمّ الانتهاء مِنْ هذه القذارة المتمثلة بأولاد يتعرّضون بسبب هذه النظرة بالذات إلى تعذيب لا يوصف. كانت حصّة موسى، قرصتين في قفاه ولطمة بكعب صابونة مربّعة تسبّبت إحدى زواياها الحادّة، بانتفاخ ملحوظ في الجانب الأيمن من رأسه. لم يمتعض ولم يبكِ بعد أن شاهد بأم العين كيف كانت تهوي بقبضتها على رأس مَنْ شكا ألماً، أما مَنْ يتأفف مِنْ احترارٍ عينيه، مِنْ رغوة الصابون، فيتلقى صفعة على خدّه، لأنّه نسي أنْ يطبق جفنيه.
ذات صباح، وبعد مضي ثلاثة أشهر، قرّرت المديرة أن تخرج مِنْ مكتبها كي تعاين بنفسها سير العمل في المؤسسة. بدأت أولاً بتفقد «منامة» التلامذة. ظهرت بحلّة رصينة وهي تمشي مخلّفة وراءها فحيح عطر نسائي حاداً، وقد حرصت جمهرة مِنَ الأتباع والمتحذلقين على المشي خلفها، كحرصها هي على أن تظهر بمظهر غير الآبه لسماع إجابات الآنسة «هدية»، عندما راحت تشير بإصبعها إلى آخر الرواق، حيث كان من اللافت خلو الزاوية الشمالية مِنْ ثلاثة أسرّة، وبدت المديرة أنيقة وهي تتبختر بفستانها الأسود القصير، الذي انتقته على الأرجح بعناية امرأة مقرّة بقصر قامتها، وإلا ما كانت لتستعين تعويضاً لذلك بعشرة سنتيمترات مِنْ كعب صندالها، وخمسة من ارتفاع تسريحة شعرها المصبوغ باللون البني الفاتح. أمّا اعتدادها بنفسها فهو كبير إلى حدّ جعلها تقدّر قيمتها بما هو أرفع مِنْ مركزها الخسيس قياساً بأصلها (البكواتي). فأن تدير «منى الباشا» مؤسسة للأيتام هذا فائض، لا يناسب مقامها، إلّا من باب التبرّع كالذي يعمد إليه الميسورون من تقديم أعطيات ليست مجاناً على الإطلاق، غايتهم، أن يستحوذوا على كل شيء، حتى الحيّز الميتافيزيقي لإيمان الفقراء، ضاق في عيونهم. لربما أرادوا بذلك أنْ يكفروا عن ذنب اقترافهم أعمالاً شائنة، وحدهم الأغنياء يقدرون فظاعة فحواها الخلقية.
توقفت فجأة بجانب سرير موسى، وأمسكت بطرف الحرام ثم أخذت تبحلق فيه بامتعاض. اكتشتفت «منى الباشا» الخلل المريع، لقد اختفت نصف الحبكة، وهي عبارة عن خيط أحاق الغطاء بتطريزة، فكها موسى ليتسلى بربطها في أرق لياليه الطويلة... زمّت المديرة شفتيها وتمتمت بما يشي بخطب كبير، لم يدرك موسى كنهه إلّا بعد مضي ساعة، أي عندما دخلت «هدية» عليهم وهي تصرخ وتتوعد. أمسكت موسى مِنْ ياقة بيجامته وجرّته إلى حيث صار على مرأى من الباقين الذين امتثلوا لأمرها برفع رؤوسهم عن مخدات الأسرة لكي ينظروا إلى موسى وهو يُلقن درساً سيكون عبرة لهم من جراء ارتكاب المعصية تلك التي راحت تتلوها على صبي لم يفهم ذنبه، لأنه لم يُخطر بالعاقبة المترتبة على فكّ خيط من حرامه، حيث لم يحذّره أحد، وإلّا لابتكر موسى وسيلة غير هذه لقتل السأم الذي كابده صبي، اختنق من رتابة مؤسسة همجية، فرضت على الأولاد الانتظام في اللعب واللهو، على شاكلة مَنْ تدعوه إلى الشيطنة بطريقة ملائكية. ولو علم موسى بالعاقبة التي تنتظره مِنْ جرّاء العبث بغطاء سريره، لامتنع بالتأكيد عن هذه المعصية، التي وإن تجنبها فهو لن يستطيع أن يتجنّب سواها؛ فحتى النوم والشبع لهما نظامهما المضبوط بكمية محددة وفي موعد محدّد، غير أنّ العذاب الأكبر عند موسى تمثّل بالنوم النهاري أو ما يُسمى بقيلولة ما بعد الظهر وهو نشاط أدرجته الإدارة في يوميات التلامذة بغية إراحتهم من مشقّة التعلّم الذي كان جلّه نوماً بنوم في الصفوف. ولأن موسى مِنْ صنف المؤرقين بالفطرة، وهو لا يغفو أصلاً في الليل إلّا بشقّ النفس، صار يتظاهر بأنّه غافٍ انصياعاً لأوامر هدية. يطمر رأسه تحت الأغطية ومِنْ ثم يشرع في اختلاق صور ومواقف متخيلة، مرّنت ملكاته الذهنية على السباحة في عالم افتراضي، بما أدى إلى أن يصير إنساناً حالماً حتى مماته. وعندما استنفد خياله استحضار أمه وهي تضرب هدية لأنها كسرت خاطر ابنها. ولما انتهى من تفريغ نقمته بالحوار غير المتكافئ مع المديرة التي رجته أنْ يعفو عنها ويرحمها عندما سيعتقلها عند حاجز عسكري وهي تتوسل إليه بالقول: اللَّه يخليك إتركني... اللَّه يوفقك لأهلك ألم تتذكرني يا موسى... أنا مدام منى، إذ ذاك يشفي غليله بالشفقة عليها ويتركها في حال سبيلها. عندما ينتهي من هذا كله، يروح يلهو باشتياقاته واستيهاماته، إلى أنْ اكتشف مرةً أنّ بمقدوره فكّ خيط مِنْ غطائه مِنْ دون أنْ يلفت نظر أي مِنَ المكلفين مراقبة حركة الأسرّة.