أنت هنا

قراءة كتاب انكسارات صبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
انكسارات صبي

انكسارات صبي

رواية "انكسارات صبي"؛ ... بعد عشر سنوات مِنَ الانقطاع التام، لم يحتج إلى أكثر مِنْ خمس دقائق، وهي المدّة التي استغرقتها المكالمة ليفهم مِنْ حديث صديقه عن أولاده الثلاثة، كيف يأكلون ويشربون ويضحكون، أن ثمة متغيّرات دراماتيكية لا مكان له فيها.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

(3)

أن يُنقل صبي مِنْ حضانة مؤسسة خيرية للأيتام، تعيش على صدقات الأغنياء وتبرعات الميسورين، ممن يودّ تبييضاً شرعياً لكسب ماله بالحرام... إلى إرسالية مسيحية، تَنْعَمُ بكل الأسباب التي دفعت المسلمين إلى أن يتسابقوا إلى حجز مقعد دراسة لأبنائهم فيها، ثمّة فرق نوعي، حاله كحال جندي تجاوز عذاب التدرّب، وانتقل إلى الخدمة العسكرية في مواقع صعبة إلّا أنها أهون من اجتياز المرحلة الأولى خلال رحلة شقاء مرّة، تبدّل فيها كمّ القساوة لا نوعها؛ فوخز النظرة الأولى طبع ملامح امرأة قصيرة بهيئة صارمة ليس فيها ما يدلّ على ذرّة عطف أو حنان. كانت ترتدي عباءة سوداء خالية من أيّ حسّ بالذوق اللطيف، إنما بالعكس، كان ثوبها يبعث على الرهبة والخشية مِنْ هندام، يبدو أنّه صمّم لتغطية قسمات أنثى، ليس لها إلّا أنْ تحارب عيبها الإنساني كامرأة.
عندما سألت موسى.. ما اسمك؟ خرجت الكلمات مِنْ فمها جافة وخاوية مِنْ رطوبة أيّ انفعال عاطفي، ويبدو أنها أتقنت التحدّث بإيقاع مهني بارع ليس فيه ما يحثّك على أن تتخيلها وهي تغنّي أو تتأوّه، كان لا يزال ممسكاً بكفّ والده عندما تلقى صفعتها الأولى على شاكلة ضحكة متكلفة. أخفت امتعاضها الكبير مِنْ واجب رعاية طفل ريفي، ليس بالمستوى اللائق، على ما بَان من ثياب ابن مزارع قرّر أنْ يتحدى فقره عبر المبارزة بسيف ابنه «أسرع إلى صفك...».
بهذه اللهجة الصارمة، دعته الراهبة كي ينضمّ إلى زملائه الجدد، غير أنّ والده استبقاه لحظة، كي يتلو عليه نصائح سريعة، لم يسمع منها موسى سوى « سآتي لزيارتك بعد أسبوعين» ومِنْ ثمّ قبّله قبل أن يهمس في أذنه قائلاً: «إذا سألك شخص عن ثمن الكتب والقرطاسية... ذكّره بأنك مقيم في هذه المؤسسة على نفقة وزارة الشؤون الاجتماعية»، ومضى أبوه مِنْ بعدها، مطمئناً إلى مرتجى تعلم ابنه في مدرسة رهبانية، استبقى فيها موسى منغصاً بخوف دهري، علق داخل قلبه.
وما أن دخل باب الصفّ، حتّى أصيب موسى بالارتباك من جرّاء نظرات التلامذة ووشوشاتهم التي تلقفته بطريقة جعلته يتعثّر بحقيبة مركونة كانت إلى جانب المقعد القريب مِنْ كرسي المعلمة التي دلّته بإصبعها على مكانه في الزاوية الأخيرة مِنْ غرفة الصفّ، تلبّدت نفسه بغمّ الاغتراب عن مكان، أحسّ فيه بسوط رقيب متربص بأيّة مخالفة، كما لو أُتي به إلى هذا المكان ليُحاسب على أخطاء، يحيا الولد بارتكابها. رافقه هذا الشعور عشر سنوات، بقي خلالها سجين خوفه من الزلل، بعد أنْ شاهد بأمّ العين، كيف عوقب «العكوش»، على مرأى مِنْ كل التلامذة، لأنّه أذنب في القفز من فوق حائط الملعب إلى بستان الليمون. جرّه الناظر بياقة قميصه، ومِنْ ثم أوقفه على المنصّة التي كان يراقب منها حسن سير اصطفاف التلامذة في طوابير مستقيمة. بدا «العكوش» بهيئة بائسة على ما يثير الشفقة مِنْ حال صبي، ولن يتأثر بالضرب تأثّره بجلد النظرات الشاخصة إليه كمذنب، تلا مِنْ بعدها الناظر «جميل» تهمة العكوش على مسمع مِنْ كل التلامذة. دبّ الفزع في قلوبهم مِنْ احتمال أن ينال أي منهم قسطاً مما سيناله ذاك المسكين. ولأن آلام النظرة الهاتكة أقوى مِنْ ضربات العصا، قرّرت الإدارة إيقافه ثلاثة أيام متتالية على المنصّة الرئيسية، لكي تُذكّر به كجانٍ.
لكنّ «العكوش» لم يعتبر قطّ، بل ازداد شراسة بعد أن اكتسب مناعة تدريجية ضد التأثّر بأي عقاب. انفرجت قسمات وجهه التي كانت منقبضة في اليوم الأوّل فقط... إلى أن صار في اليوم الثالث استعراضياً في السخرية مِن الطلاب الذين يرمقونه بوجل عندما كانوا يمرون من أمامه. حتى إنه توجّه إلى أشطر زملاء صفّه واسمه عارف بالقول: «خايف تحكي معي... شو أنا قاتل قتيل! [وأردف] هي أول نصف ساعة مِن العقاب صعبة، أما الباقي بصير متل مضغ العلكة لا واللَّه بقلك بتصير حلوة الوقفة هون»!
أبدى عارف استغرابه بكلام، أراد به «العكوش» أن يظهّر نفسه متميّزاً ولو بالمشاغبة والمشاجرة اللتين تعوضانه حرمانه من نجومية التفوق في الدرس التي كانت لـ «عارف» وثلاثة من الممتثلين لنداء الواجبات المدرسية.
واجه موسى صعوبة في التكيّف مع نظام الحياة الداخلية في مدرسة رهبانية، قوانينها صارمة وممنوعاتها كثيرة. ووجد نفسه مقرباً من أربعة طلاب وهم «جوزيف، رضوان، عقيل ونايف». انتقوا بعضهم بعضاً بتلقائية القاسم المشترك لمنح خمسة صبيان مساعدة تعليمية على نفقة وزارة الشؤون الاجتماعية.
فرزوا أنفسهم عن الباقين خلال مدّة وجيزة، ليتعصبوا في زمرة، تعاركت مع كل مِنْ يعتدي على أيٍّ منهم. فتحوّل سلوكهم إلى قضية وجود، بين قلّة تكافح لفرض الاعتراف بأحقية وجودها في مؤسسة، يستدل مِنْ أقساطها المرتفعة على أنها للأغنياء؛ وكثرة تنأى بنفسها عن لوثة الاختلاط مع مَنْ لا يتحدر مِنْ طبقة غنية تزدري الفقراء، ولا ترى في موسى ورفاقه إلّا وجوداً عرضياً لثلّة من الأشقياء الذين يستثيرون العطف وهم ينظرون بانكسار ولهفة إلى ما يتناوله الآخرون مِنْ شوكولا فاخرة كألواح Twix - Mars إلخ...
كانوا يستفزّون النقمة عليهم حالما يتفوّق أحد منهم في سباق رياضي، أو مسابقة علمية، كما جرى تماماً يوم فاز موسى بسباق الجري مسافة ألف متر، بحذاء بال، رتقه أبوه برقعتين اثنتين، حفّزتاه على بذل أقصى ما عنده، لينتصر على ماركتي adidas و Nike لأحذية منافسين تخلّفوا عن اللحاق به مسافة، نفهم معها الفرق بين دوافع المقهورين وكوابح المُنعمين.
لم يتحمّل «حليم قهوجي» الخسارة، فما كان أمامه إلّا أن يستهزئ بحذاء موسى، عندما راح يتبختر ببذلته الجديدة وبغرور مَنْ حسب نفسه أرفع من أن تنال الخسارة من مقامه كابن تاجر مقتدر، لا يمكن أنْ يهزمه شخص وضيع كموسى. لذا رمى إليه قطعة نقود بطريقة فظّة، على ما يمكن أن تراه في سلوك بعض الحمقى وهم يعطون شحّاذاً. عندئذٍ هجم عليه موسى كثور هائج ولكمه على وجهه، بعد أن أعمت الإهانة بصيرته عن احتساب العاقبة المترتبة على كسر أنف تلميذ «مجلوق». لأول مرة نال رأفة الناظر «جميل»، فاقتصر عقابه على زربه فرصتين متتاليتين فقط، ليس تقديراً لفوزه بالميدالية الأولى في السباق، بل لأن لكمته قد فرّغت شيئاً مِنْ غضب الناظر المشحون بالنقمة على تبجحات حليم الغليظ.

الصفحات