رواية "انكسارات صبي"؛ ... بعد عشر سنوات مِنَ الانقطاع التام، لم يحتج إلى أكثر مِنْ خمس دقائق، وهي المدّة التي استغرقتها المكالمة ليفهم مِنْ حديث صديقه عن أولاده الثلاثة، كيف يأكلون ويشربون ويضحكون، أن ثمة متغيّرات دراماتيكية لا مكان له فيها.
أنت هنا
قراءة كتاب انكسارات صبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
«شو صايبو هالصبي بيمشي وبيحكي معنا متل اللي شامم ريحة خرا» هكذا تمتمت «أم فتحي» منفعلة، بعد أن مرّ أمامها مِنْ دون أن يرمي التحية عليها، جرياً على عادة أهل «الدفلاية». خاب أملها بمن كان له نصيب الرضاعة مِنْ بزّها أربعة أيام وختمت بالقول: «إنسان بلا وفا» سمعه الجيران يتلاسن مع أبيه المستاء مِنْ تعمّده كسر التقليد المتّبع في استقبال الضيوف المهنئين بعودته سالماً، ليومين. كسر كلمة أبيه وذهب إلى بيروت لأسباب، ادّعى هاني أنها هامة جداً. والحقيقة أن شاباً في مقتبل العمر مثله، لن يجد أهمية أكبر من اللقاء مع فتاة لبنانية تواعد على شرب القهوة معها في مقهى «الدبيوبو» وهو في باريس. ردّ عليه والده بالقول: «مَنْ قال لك إن في الدنيا شيئاً أهمّ مِنَ الحفاظ على كرامة أهل الضيعة... ما فعلته غير مقبول أبداً». ولما حاول هاني أنّ يقنع أباه، أنّ هذه تقاليد بالية، لا تؤخّر ولا تقدم في الحياة العملانية، ردّ عليه أبوه بغضب وقال: هذه تقاليد بالية عندهم... أمّا عندنا فلا.... أوفدتك إلى تلك البلاد الباردة، لتصير فهمان وتزداد علماً... على كل حال صدق اللي قال: «لا رجاء بمن نسي أصله». صحيح أن هاني تبدّل تبدلاً لافتاً مِنْ جرّاء تلوثه بأبّهة المدينة وعجقتها التي عجنته على ما أدّى به إلى إعادة ترتيب أولوياته تبعاً لبطء الوقت في «الدفلاية» وسرعته في باريس؛ إلّا أنه حافظ على رصانته وصار أكثر هدوءاً في مواجهة الانفعالات العاطفية لأهل ضيعته، وهذا ما زاده احتراماً، كان يمكن أنْ يتضاعف لو تعامل بحنكة أكبر، مع بيئة ريفية ترفض عادات الأوروبيين وتقاليدهم الاجتماعية، لكنها تقدر أفضليتهم في كل ما عدا ذلك، أي في صناعة السيارات والطيارات والأدوية؛ فابن الثالثة والعشرين لا يزال أطرى مِنْ أن يظهّر اقتداره المعرفي بصورة متواضعة. كانت تملأه الحماسة إلى درجة أثارت إعجاب سامعيه وهم يصغون إلى كلامه المنطوق بصدق فائق.... ولطالما شدّهم إليه بطلاقة لسانه وهو يتحدّث في السياسة والفلسفة، وفي كل ما لم يفهم منه أهل الضيعة سوى أنّهم أقلّ مِنْ أن يدركوا المغزى العميق لكلمات المتعلمين.
ولكونه قادراً على فكّ ألغاز الدين، في نظر أخيه سليمان، سأله الأخير رأساً عن سرّ البيت المسكون. فردّ هاني بابتسامة «صفراوية» وشت باكتناهه معلومة يجهلها أهل الضيعة، ولمّا ألح سليمان على أخيه أن يبوح إليه بإجابة صريحة، سأله هاني عن المغزى الذي يمكن أن يكون قد دفع أم شاهين المتزوجة حديثاً برجل لا تحبّه على نشر إشاعة مِنْ هذا النوع، أعمت العيون عن الالتفات إلى مكان قريب مِنْ بيتها، ولما أبدى سليمان استغرابه من الإجابة عبر سؤال، لم يفِ حق الإجابة المباشرة بصريح العبارة أجابه هاني ساعتئذٍ قائلاً: «لا تصدّق مثل هذه الإشاعات، فهذه تهيأت، تنطلي على أصحاب العقول البسيطة، فلا جنّ ولا إنس يسكن بيت الشلهوب... أطلقت أم شاهين تلك الإشاعة في البداية لتطمس نظر أهل الضيعة عن مخبأ خلوتها العاطفية مع عشيق له اسم وجسم،... إنه سمير اللحام، ومِنْ بعدها استرسلت أقاويل الناس في نسج حكايا ومزاعم عن رؤى وخيالات وهمية... هل توضحت لك الصورة»؟.
لم يخبر سليمان أحداً، فتسلّح بهذا الاكتشاف الحصري ليتمادى أكثر في إثارة هلع رفاقه، مرّة من خلال الأصوات الغريبة التي راح يقلّد بها نواح امرأة ثكلى مِنْ مخبئه في حلكة ليلة دامسة كان يحتجب في عتمتها خلف سور بيت الشلهوب. ومرةً أخرى عبر رشق المارّة بحجارة صغيرة كانت تقع على رؤوس الناس وقع الرهبة الصادرة مِنْ بيت مسكون بالجنّ. صار يستفيق في الليل ليتسلّى في إخافة القاطنين بالقرب مِنَ البيت المسكون. فتحولت الضيعة كلها مرتعاً لشقاء صبي، لم يتوانَ في العبث بكل شيء، حتّى إنه لم يتوانَ في التسلل إلى دارة «أبو عدنان» القريبة من بيت «الشلهوب»، إذ كان متأكداً أنّ بمقدوره، أخذ كل أغراض البيت مِن دون حاجة لأن يحذر استفاقة قاطنيه، فنشل فردة جراب عن حبل الغسيل ليحفظ فيها كلل أخيه موسى، ومضى في حال سبيله. ولما استفاقت «أم عدنان» في صباح اليوم التالي، لتجد فردة جراب مفقودة، قرّرت أمام زوجها على الفور، بأنّ هذا ليس مِنْ فعل آدمي، فاللص يسرق الفردتين. أقسمت بعدها إنها لن تبيت ليلة واحدة في بيتها.
تنعّم صبية الدفلاية بدفء حياة طليقة مِنْ قيود المساحات الضيّقة، حتى صار للعالم طعم الإحساس برحابته، فاستحال الكون كله مسرحاً لأحلامهم السارحة نحو آفاق بعيدة، لا يحدها التشكّل ذاك الذي عينته سلطة أب كابح أو نظام رادع. خلقوا عالماً أجمل مِنْ عالم الكبار، لا رقابة فيه ولا التزام يمنعهم من الفوز بالشغف الذي يتلاشى حالما يمسكونه بأيديهم، يسعون إلى المتعة الهاربة أمام سعي أولاد يودون الامتلاء باللحظة التي تعقب النجاة من خطر المغامرة التي سيّرت عزيز على فند سنديانة مقصوفة فوق بئر الشفع. كان الأولاد يبحثون عن غبطة النجاة مِن عضّة الكلب الذي هجم على سليمان، بعد أن رشقوه بحجرين. ولم يكترثوا إن تعرّض أحدهم للآلام الناجمة عن لسعة عشرة دبابير كالتي صيّرت موسى منتفخاً كطبل. وإلا ما كان ليمتشق سليم قصبته الطويلة ويعاود التحرّش بوكرها مرّةً ثانية.
لعل الصبية بطبيعتهم يتلهفون على تسجيل انتصارات للهو بما جعل شكري لا يلتفت أسبوعاً كاملاً إلى أكواز الرّمان في السلّة التي وضعتها أُمّه على طاولة المطبخ، لأنه كان متشوقاً إلى التلذذ بطعم سرقتها هي نفسها مِنْ شجرة جارهم أبي هيثم. وما أتاح لهم القيام بمثل هذه المغامرات الشائقة، تلك المساحة البعيدة عن رقابة أمهات، ليس بمستطاعهن الاهتمام بشيء غير توفير ضرورات العيش لأفراد أسر ريفية مكونة مِنْ عشرة أولاد أو أكثر؛ حيث شاء القدر لأصغر عائلة في «الدفلاية» أن تقتصر على أرملة وخمسة أطفال، بعد أن فُقد أبوهم مِنْ جرّاء زلّة قدم في وعر «الأرنبة». سقط على رأسه مِنْ فوق شيّار صخري عال ومات...!
وبطبيعة الحال، فالأهل في العائلات الريفية مضطرون إلى السهو عن تفاصيل الحياة اليومية لأبنائهم الذين يستغلونها فرصة لاختبار مقدرتهم على اكتشاف سرّ موجودات الطبيعة، يتركون أنفسهم للبراري كي تتكفل وديانها وسهولها برعاية نشأتهم على الفطرة التي أيقظت في نادر إحساساً غريباً بجسده، حالما شاهد ثوراً ينطّ على بقرة...
ولما قرّر سليمان وعزيز التشبّه بما كانت تفعله أمهما عند دق اللحمة النيّة، جاءا بصغار قطة شاردة، وراحا يدقان رؤوسها ببراءة مَنْ لا يدرك كنه القتل، كانوا يلهون بلعبة تقليد الكبار على ما كاد يودي بحياة موسى، عندما استلّ عزيز سكيناً ليحزّ بها رقبته في لعبة ذبح العجل. لكن شاء القدر أن ينقذه في اللحظة الأخيرة، عندما صودف مرور رجلين غريبين، أسرعا لإنقاذه، حالما رأيا صبياً يهمّ بذبح صبي آخر وهو مكبل اليدين والرجلين.
سقط هيثم تحت حوافر الحمار الذي فاز بالسباق، فنجا بأعجوبة مِنْ عملية استئصال الطحال. وبعد حوالى شهرين قفز سامي من أعلى فند في شجرة كينا عتيقة وكسر يده اليمنى، كل هذا بحثاً عن شغف المبارزة والتحدّي، في هذه الأثناء سلخوا موسى من هذا الخضم المسلّي وزجّوا به مرة ثانية في نظام مدرسة داخلية تابعة لراهبات «الكتلة المقدّسة».