أنت هنا

قراءة كتاب انكسارات صبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
انكسارات صبي

انكسارات صبي

رواية "انكسارات صبي"؛ ... بعد عشر سنوات مِنَ الانقطاع التام، لم يحتج إلى أكثر مِنْ خمس دقائق، وهي المدّة التي استغرقتها المكالمة ليفهم مِنْ حديث صديقه عن أولاده الثلاثة، كيف يأكلون ويشربون ويضحكون، أن ثمة متغيّرات دراماتيكية لا مكان له فيها.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

دأب لقتل الساعة والنصف مِنْ بعد كل يوم في التدرّب على ألعاب يدوية تعلمها مِنْ رضوان.
فقد موسى إحساسه بجسده عقب الضربة الخامسة، وتخدّر كله. إلّا روحه صارت تنزّ ألماً بعد أن بضعت هدية عاطفته بأسباب جنوحه إلى مغامرات رسمت مصير ثلاثة من زملائه ومستقبلهم... شعر بأن لا قيمة له بعد أن تعرض لمهانة أنزلت منسوب الثقة بنفسه إلى الحدّ الذي يجعلنا نفهم لماذا تمادى أنيس في تهوّره إلى حدّ المبالغة في إظهار شجاعته أمام خمسة من رفاقه حينما قفز من فوق شيّار صخري عال أودى بحياته، فبمثل هذه الثقة المهتزّة يقدم الإنسان على المخاطرة في حياته لإثبات أنّ ثمّة معنى لوجوده أقوى من (الثقة) التي تحطمت أثناء طفولته.
لم تصدق أخته ندى عينيها عندما جاءت في الموعد المحدّد، يوم السبت من كل ثلاثة أسابيع لزيارته حيث انتدبها أبوها عبر الهاتف لكي تحل محلّه، بعد أن تعذّر مجيئه من الضيعة بسبب العاصفة التي ستضرب السواحل اللبنانية، بحسب ما أخطرت به الأرصاد الجوية خوفاً مِنْ مغبّة خروج الناس مِنْ منازلهم إلّا للضرورة القصوى. بحثت ندى عنه بين الصبية من دون جدوى، فجميعهم كانوا حليقي الرؤوس، يرتدون زياً موحداً رمادياً رخيصاً وباهتاً يصل بخطوطه الصفراء والبنفسجية إلى الركبة، ذابت ملامحهم جميعاً في قالب مِنَ النظرات البائسة لموج من العيون التي تستجدي إنقاذاً من الغرق في هذا الشقاء المريع الذي يتخبطون فيه لحظة بلحظة. اقترب منها... ناداها، خافت أن ترى ولداً بمثل هذا الانكسار، قبل أن تتعرّف إليه.
حضنته وبكت وهي تردد: ماذا فعلوا بك!! لم يجب، تخدّر في استرخائه بين يديها، إنما رمقها بنظرة استنجاد طافحة بالعتب والنقمة والسخط والكره وبكل ما فاض من غصّة عتيقة، ما لبثت أن انفجرت دموعاً غزيرة بقوّة انحباس قهره الداخلي. فقد القدرة على الكلام، وصار يبكي ويبكي طوال مدّة الزيارة، كما لو أنه أراد أنْ يشكو ببكائه مرارة، أبلغ مِنْ فصاحة الكلام. فجأة سمع صوتاً غريباً، لَفَعَ سمعه بانكماش، شَعَر به، قبل أنْ يتعرّف إلى نبرتها التي عدلتها لكي تلائم حنو المربية الصالحة أمام أهالي الصبية. إنها هي هدية، بشحمها ولؤمها، مَنْ كان ينادي الناس، كي يستعدوا للمغادرة. «المدّة انتهت»، أمهلتهم خمس دقائق، قبل أن يغلق الناطور بوابة حديدية ضخمة تبعث على المقارنة بما هو أبشع مِنْ بوابة سجن «الكتراز» مع فرق أن المرء في ذاك السجن يدرك تهمته الجرمية، أمّا هنا فيشعر الطفل بأنه لم يقترف ذنباً كي تسدّ عليه منافذ الهواء الطلق، ولا يعرف سبب حجزه في مكان مظلم لا أمان فيه، ولا رحمة.
الكلّ أحسّ بتبدّل مزاجه السوداويّ، عقب زيارة قصيرة، أدت إلى انفراج أساريره، بعد أنْ فرّغ غيظه وزفر نقمته المحبوسة، منذ أنْ أُودع هذا المكان الرهيب. مجيء أخته، امتصّ شيئاً مِنْ نقمته، وهذا ما جعله يعود إلى سابق عهده يركض وينط، مما أراح المسؤولين الذين كانوا خائفين أكثر على سلامة الأطفال بدنياً؛ فانطوائيته لا تهمّهم ما لم تمنعه عن الأكل، وخوفه مِنَ النظر إلى عيون الآخرين، ليس له مِنْ دلالة في قاموس تربيتهم التي تتماشى مع التوصية التي ألقاها أبوه على مسمع المديرة التي راحت تتفاخر بما قاله لها ولي أمره؛ هذا هو ابني... وهو تحت تصرفكم... افعلوا ما شئتم به لكم لحمه... ولي عظمه...!!!
وحدها مساعدة المديرة واسمها سهى مَنْ كان لديها حس عطوف. آلمها خفوت نظراته المتوقدة التي كانت تنم عن شقاء صبي فضولي. رقّ قلبها وصارت تحنو عليه كلما رأته يمشي وحده إلى جانب حائط الباحة الخارجية للملعب. في إحدى المرات تقدّمت منه، وقبّلت جبينه وحضنته، ومِنْ ثمّ صارت تشتري له الشوكولا والبيبسي والملبن... كلما رأته يمشي وحده. لقد خصّته باهتمام شديد أثار حسد زملائه عندما جلست إلى جانبه على أحد المقاعد، لتطرح عليه سؤالها الفضولي العتيق: كيف مات أبوك؟
فوجىء موسى بداية بسؤالها عما يمكن أنْ يخفّف مِنْ عطفها عليه فيما لو أجاب بعكس ظنّها، تذكّر صديقه رضوان، عندما قال له: إنهم موجودون هنا في مؤسسة خيرية تُعنى برعاية الأيتام، غير أن موسى لا يفقه معنى اليتم، ولم يلفته حديث معظمهم عن موت آبائهم. اللهم إلا ثلاثة عارف وسليم وهو. تظاهر موسى بالحزن لينفذ مِنْ ارتباكه حيال إجابة قرّر بأنه بها ستتحدد علاقته بامرأة تمثل رجاءه الوحيد، لذا حرص على ألّا يتخلّى عمّا يشي بأنه يستحق عطفها... إلى أنْ جاءت إليه بعد حوالى الشهر وفاتحته باكتشافها أنه ليس يتيماً. بدا أنها مخذولة وهي تخاطبه بالقول: لماذا لم تقل لي الصدق؟... على كل حال فعل الخير لوجه اللَّه، حسنة...!
طأطأ موسى رأسه، ومكث يفكِّر في وسيلة ما تنقذه مِنْ هذا الإحراج المقيت. أحسّ بالمهانة بعد أن فضحت الآنسة سهى ابتزازه عاطفتها. عندئذ فتق ثوب ضعفه وهم بالهرب إلى الأمام، لقد تحرّر مِنْ كوابح الظهور بمظهر ولد يستأهل الشفقة عليه حينما بدا بمظهر المحتاج إلى العطف والحنان. رجع إلى شقائه الصبياني الذي عرّضه هذه المرّة إلى تعنيف مضاعف مِنْ قِبل الآنسة سهى.
بقي موسى حائراً حيال لغز مكوثه مدة سنة كاملة في مؤسسة للأيتام، إلى أنْ وقع نظره مصادفة على ورقة مخبأة في درج خزانة أبيه.وبعد مضي عشر سنوات من تاريخ مكوثه في المؤسسة، استغل موسى فرصة انشغال أهله في أثناء موسم زرع التبغ في محلّة «السهيلة». خرجت العائلة وبقي هو لأنه أصغرهم، تسلّق حافة الخزانة وتناول بشق النفس العلبة السوداء التي تحوي سرّ الأسرار، لأنّ فيها مفتاح الخزنة المحرّمة التي أثارت فضوله مِنْ فرط إصرار أبيه على مغافلتهم كلما همّ بفتحها، استفزّه هذا الحرص غير المبرّر، إلّا لسبب عظيم، قرّر موسى استكشافه، ليجد في الخزنة أوراقاً لا تعني له شيئاً؛ حججاً بلدية وبعض المستندات التي تثبت ملكية قطعتي أرض في «النقيع»، وحفنة مِنَ الأوراق الباهتة. قرأ على واحدة منها شروط وزارة الشؤون الاجتماعية للموافقة على وهب «موسى الشبراوي» منحة تعليم مجاناً في إحدى الإرساليات الأجنبية، ومِنْ أهم شروطها أنْ يقضي الصبي سنة كاملة في مؤسسة الأيتام، كي يستوفي حقّ حصوله على واحدة من المنح الثلاث التي تبرّعت بها الوزارة الموقّرة.

الصفحات