رواية "انكسارات صبي"؛ ... بعد عشر سنوات مِنَ الانقطاع التام، لم يحتج إلى أكثر مِنْ خمس دقائق، وهي المدّة التي استغرقتها المكالمة ليفهم مِنْ حديث صديقه عن أولاده الثلاثة، كيف يأكلون ويشربون ويضحكون، أن ثمة متغيّرات دراماتيكية لا مكان له فيها.
أنت هنا
قراءة كتاب انكسارات صبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لانَ موسى في السنوات الأربع الأولى وتهذّبت تصرفاته حتى صار منصاعاً للأنظمة الصارمة في مؤسسة تربوية، في قمّة أولوياتها، احترام القوانين والالتزام بروزنامة يومية حدّدت وقت النوم في الساعة الثامنة مساءً، والنهوض في السادسة والنصف صباحاً، مِنْ بعدها بنصف ساعة عليهم أن يتناولوا وجبة الفطور... إلى أن يرنّ جرس العودة إلى الصفوف في الثامنة صباحاً، تستمر حتى الثانية والنصف من بعد الظهر، تتخللها فرصتان، العاشرة للراحة واللعب، والواحدة لتناول طعام الغداء. وهكذا... إلى أن يحين موعد عصرونية التلامذة الذين يبيتون في المدرسة في الساعة الثالثة من بعد الظهر، وهي عبارة عن قطعة خبز محشوّة بمربى المشمش أو الحليب المحلّى أو الدبس بالطحينة... يعقب ذلك وقت راحة، يستمر حتى الرابعة والنصف، تلتئم بعدها صفوف التلامذة الداخليين مِنْ جديد لتحضير فروض اليوم التالي ودروسه، وهكذا دواليك... ممنوع عليك أن تجوع بين وجبة وأخرى، والحرام الأكبر أن تمدّ يدك إلى المائدة قبل أن تنتهي الراهبة ماري مِنْ مباركة الطعام بترتيلة كلام بيزنطي، وتصوّر كيف على التلامذة أن يرددوا وراءها بخشوع كلاماً غير مفهوم، وهُم جياع. ممنوع أن تترك قطعة دهن في صحنك، حدث هذا قبل أنْ يتقيأ موسى على المائدة، لأن الراهبة أجبرته على مضغها بالقوّة. ليس مِنْ حقك أنْ تقلق ساعة النوم، بعد أن تطفئ الراهبة الضوء، لتتمشّى بين الأسرّة، ربع ساعة بغية مراقبة رقاد التلامذة.
كان جلّهم يغمض عينيه ويسرح بخيَاله نحو استرسالات مشوّقة، تنوّم البعض وتوقظ البعض الآخر، ممن يتحين فرصة خروجها لينهض من سريره، حالما يسمع الباب قد أغلق، ومن ثم يشرع بعدها في النطّ فوق سريره حتى يتعب.
ذات مرّة، قرّرت زمرة الشرّ، حسبما وصفت الراهبة ماري صحبة الخمسة، عقيل وموسى ورضوان ونايف وجوزيف أن يلتمّوا، والأدق، رضوان مَن اقترح عليهم خطة الاستفاقة في منتصف الليل لإقامة وليمة «قرقشة» بسكويت وراحة الحلقوم وشوكولا وبيبسي؛ حذّرهم من مناداة بعضهم بعضاً بأسمائهم، واستعاضوا عنها بألقاب صيّرت موسى فجلة ورضوان بصلة، جوزيف أرنب، وعقيل جرّافة أما نايف فبغل، وذلك خوفاً من أن يشي بهم جميل العرّ، وهو تلميذ مقيّد مِنْ داخله بالخوف مِنَ المعصية. نبذه زملاؤه بسبب وشايته بالآخرين، ويبدو أنه وجد في هذه الآفة هوية خاصة جعلته ينتقم لنبذه من تلامذة كانوا أصغر مِنْ أن يتقنوا فنّ إنقاذه من هذه الرذيلة التي تسلّط بها عليهم ليثأر منهم. وهكذا كلما زادوا من تجنّبه وامتنعوا عن إشراكه في ألعابهم ومغامراتهم، توغل هو أكثر في الوشاية بهم إلى أن صار صبياً مدسوساً. لذا، مِنْ حسن حظّهم أنه لم يستفق في تلك الليلة على تحلقهم بجانب سرير نايف، فشرعوا في قضم البسكويت بنهم ولذّة مستمدة مِنْ شعورهم بمذاق تمرّدهم على رتابة الانتظام في قوانين المدرسة، علماً أنه كان في مقدورهم أكلها هي نفسها في الملعب وفي أثناء الفرص تحت سقف النظام، لكنهم آثروا أن يثوروا ضد النظام عبر الأكل، لعلّهم كانوا يودّون أن يتسلّوا بالخوف والتحفّز بحيث غمرت وجوههم غبطة الانتصار بهذا الاختلاس الذي أرادوا أن يتحدّوا به التزاماً مقيتاً، ضيّق الخناق على رقابهم حتى باتوا ألدّ أعدائه؛ انتفضوا ضد مبتغى صبّهم في قوالب نمطية، فبركتها الإدارة لإنتاج فرد ملائم لمواصفات التربية الحسنة.
كان الخمسة يتحلقون متقابلين على شكل دائرة، عندما سقطت قطعة الشوكولا من يد رضوان وتسمّر نظره على ما يشي بخطب ما وراء موسى، بعدها تبدّلت هيئة نايف بطريقة لم تترك للباقين مجال السؤال عمّا التفت إليه موسى رأساً... وإذ بمخلوق أسود، لم يشعروا بمجيئه، وجدوه فجأةً منتصباً فوق رؤوسهم وهو ينظر إلى ما يفعلون، ولأنّه باغتهم هكذا، مِن دون أن يسمعوا وقع خطواته، أصيبوا في اللحظة الأولى بهلع عظيم طمس عقلهم وإحساسهم بتمييز الحقيقة من الوهم، خمّنوه عفريتاً أو كائناً مِنْ جنس غير آدمي، ذلك أن رعبهم مِنَ العتمة كان قد تغذى بما سمعوه في حكايا أجدادهم عن الأشباح والجن والكائنات الغريبة. أضاف عليها صفوان خبرية طازجة عن خبث جنية ذات أظفار طويلة ظهرت لأمّه في منتصف ليلة باردة على شكل هلامي أبيض، صاروا بعدها متوجسين مِنْ أن تظهر لهم جنيّة مثلها في كل ليلة، ولأنهم كانوا موسوسين بهذا الظهور في كل لحظة، أغمي على نايف، فاختفى في أثره الطيف الأسود وذاب في العتمة.
حافظ رضوان على حسّ المبادرة لديه، وبقي إلى جانب نايف حتى استفاق برشّة ماء على وجهه، بعدها اندس كلاهما كالباقين، تحت أغطية سريريهما، علّ النهار يبدّد رعب الليلة الفائتة.
ابقوا الأمر في ما بينم سرّاً مخافة أن يشكوهم أحد إلى الإدارة. إلى أن سرّب نايف الواقعة إلى راجي بصورة معدّلة على النحو التالي: «بينما كنت ذاهباً إلى المرحاض في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ظهر أمامي كائن غريب، له عينا بومة، ورأس ثور بلا رقبة كان رأسه ملتصقاً بجسد كله أسود، لا كسم له، وليس لحجمه مقدار، إذ كان يتقلّص ويتمدد مع كل تنهيدة، كدودة تصارع قدر دوسها بحذاء طفل»، وأردف يقول: لم يتعرض لي المخلوق العجيب بكلمة، لكنّه كشّر عن أسنان طويلة، بدت لي كأنياب ذئب. تلاشى مِنْ بعدها بلمح البصر.
دب الهلع في قلوب التلامذة بعد أن نشر نايف خبراً، قصد به إشراك الباقين في الخوف الذي كان يعانيه في مساء كل ليلة. هكذا تساوى الجميع في الرعب من احتمال ظهور ذاك المخلوق على أي منهم. وصار إذا ما اضطر أحدهم للذهاب إلى المرحاض وقت النوم، عليه أنْ يوقظ زميلين لمرافقته، ومَنْ لم يجد متبرعاً، كان يبول في قنينة بلاستيكية وفت بالغرض مدّة طويلة.
سهت الإدارة عن هذه الفوضى مدّة شهرين، قبل أن تعود الراهبة «ماري» وتستدرك، عبر إجراءات، بنتها على ما زودها به جميل العرّ مِنْ معلومات يومية حول ما يجري في ليالي الأولاد. فأُنيرت الممرات الجانبية، وفرض على ثلاثة موظفين التناوب في السهر عليهم حتى مطلع الفجر حصراً في قاعة النوم. حتى إنها أجرت تعديلاً نوعياً وغير مسبوق في استدعائها عدداً من طلبة القسم الثانوي، كي يشاطروا صغارها النوم في القاعة نفسها، على أمل أن يتبدد الرعب الذي استبدّ بالأولاد إلى درجة انعكس هبوطاً فاضحاً على نتائجهم المدرسية.