أنت هنا

قراءة كتاب انكسارات صبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
انكسارات صبي

انكسارات صبي

رواية "انكسارات صبي"؛ ... بعد عشر سنوات مِنَ الانقطاع التام، لم يحتج إلى أكثر مِنْ خمس دقائق، وهي المدّة التي استغرقتها المكالمة ليفهم مِنْ حديث صديقه عن أولاده الثلاثة، كيف يأكلون ويشربون ويضحكون، أن ثمة متغيّرات دراماتيكية لا مكان له فيها.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

هكذا تحوّلت الضيعة كلها صوب الغرب ناحية «الجورة التحتا، والخرّار والجلالي الصفر»، هناك تشكَّلت الدفلاية الجديدة، تاركة للزواريب القديمة صمت أيام زمان، لكن لايزال لمقام النبية فيها هالة تقديس مستمدة مِنْ جهل أهل «الدفلاية» بنسب النبية وتاريخها، فلا يعرف الناس عنها غير ما يرونه مِنْ قبّة ترابية، نَبَتَ فوقها عشب دهري، لا يُمسّ، لئلا يُدنسّ سرّ اللَّه المدفون في مقام، أضحى قبلة نذور مختلفة. إضاءة شمعة لمن لم ينجب ذكراً. وشمعتين لأم تستجدي الشفاعة لابنها الغائب، أمّا البنت التي شارفت سنّ العنوسة، فعليها أن تمشي حافية إلى حيث رجمة مِنْ حجارة الصوان، قبالة المقام تماماً، ومن ثم عليها أن تركع هناك مدة نصف ساعة، تتضرع في خلالها إلى الله كي توفق إلى عريس يحميها من تعاسة الوحدة في أيامها المتبقية. وحدها خديجة أم موسى بقيت على ارتيابها وشكها في حقيقة المقام. لأن الله أرفع مِنْ أن يقترف تصرفاً من هذا النوع ويُرسل نبيّة مِن جنسهن، فالأنثى لا تحتفظ بسرّ. وهي أصلاً مدنّسة بدماء الطمث، تغوي الذكور وتدفعهم إلى ارتكاب الرذيلة والفاحشة. لكن مِنْ فرط ما حُكي عن استجابة نبيّة «الدفلاية» لنذور أهلها ودعواتهم، صارت مقصد المعوزين من ضيعة «برج الدوري» و«النفاحة» و«الخشّة» ولكثيرين ممن سمع بمعجزة شفاء أبي فهيم مِنْ خبل صدمة قاسية، أفقدته عقله مِنْ جرّاء مرأى ليلي، قِيل فيه إنه شاهد في العتمة حيواناً هجيناً، له رأس تمساح وجسد خنزير، ولما أعيا الأطباء في محاولاتهم ولم يُشفَ، أخذوه إلى مقام النبيّة، ومرغوا وجهه بتراب القبّة. لم يمضِ يومان حتّى عاد إليهم بعقل صاف ومتقد. حتى «أبو نجيب المعّاز» استنجد بإعجازها للبحث عن كبش قطيعه الذي افتقده عند المساء. فتّش عنه في المسالك الوعرة «لجلالي السمر والرفيد». قضى الليل كله ينادي في البراري «الزعرت والأغبر»، ولما لم يجد له أثراً، لجأ إلى النبيّة، ونذر بأن يوزّع لحم جدي العنزة الكحلة على المحتاجين، إن أعاده اللَّه إلى قطيعه سالماً، فوجده في اليوم التالي على باب الزريبة.
بعد ذلك تحوّلت القبّة الترابية للمقام مزاراً مقدّساً، لا يضاهيه سوى الكلام عن جلالة اللَّه القدير الشافي الرحيم والعليم؛ ولأنها كما في اعتقاد أهل الضيعة كلهم باتت تحوي كل ما لا يعرفونه عن أنفسهم، صار لها مهابة خاصة، الكل صار يتوقّر المرور مِنْ أمامها، بالبسملة والحمدلة، حتى الصبية أدركوا بأن اللعب بالقرب مِنْ مرقد الأسرار قد يزعجها ويثير غضبها، لذا تحوّلت زواريب البيوت المهجورة إلى مخبأ لعبة «الغميضة وعسكر وحرامية». إلاّ نادر «الجبان» بحسب ما صار يناديه سليمان وشلّته، ولطالما وجدوه متكوراً على نفسه خائفاً من ظله، في كل مرّة تنتهي اللعبة من دون أن يظهر له أثر. أمّا لماذا كان يصرّ على مشاركة الصبية في ألعاب قد تعرّضه لسخرية أضعفهم، فهذا يعود إلى الفرح الذي كان يستشعره في داخله عندما يرى الآخرين يقدمون على ما يفزع منه. ولأنه بات يمثل عبئاً على كل فرقة تشفق عليه وتضمّه إليها، صار رفاقه يصدونه، في المرات القليلة التي يأذن له أبوه في الخروج للعب معهم، بدبلوماسية فاقعة. كأن يجلسوه على مصطبة قريبة مِنْ فسحة اللعبة ويجعلوه مراقباً لهم.
كان الجريء بينهم يتوغّل في العتمة الدامسة إلى حيث يُسمع مِنْ صوب المقبرة القديمة رعب الهمسات التي تتحدث عن أنها مسكن للأرواح. تستفيق في الليل لتتفقد ما فعله الناس في النهار؛ قِيل إنها كانت مدفناً لليهود، قبل أن تختم قصّة مشاركتهم لنا مع هجرة القسم الأكبر، لتبقى قلّة منهم خائفة مِنَ الظهور حتّى في الإعلان عن موتها. إلّا قبّة نبيّة «الدفلاية» لم يغامر أي من الصبية في الاقتراب منها. عبثوا بكل شيء، حتى المسجد لم يسلم مِنْ مغامراتهم لاستكشاف أسباب الرهبة التي احتلّت حيّزاً كبيراً في إيمان أهلهم.
سليمان هو مَنْ كسر حاجز الخوف لديهم، حينما دخل باحة الصلاة مِنْ دون أن يمتثل للأمر المكتوب على المدخل «عليكم بخلع الأحذية». استفز فضوله في اليوم ذاك، صندوق عتيق مزيّن بزخرفات وترصيعات أندلسية. خلع قفله ليجده فارغاً إلّا من مسابح وأقراص وثلاث نسخ مِنَ القرآن الكريم. كان عزيز مُزعجاً للشلّة في تباهيه الدائم بجرأته على الوصول إلى «بيت الشلهوب» الأبعد عن الضيعة والأقرب إلى المقبرة القديمة، ولمّا استاء سليمان مِن اعتداد غيره بما يجب أن يبقى حكراً له وحده، دبّر له مكيدة محكمة أثناء عودته في ليلة مقمرة مِنْ صوب زاروب صفيّة، حيث وزّع قبل وصوله، الأدوار على الباقين في إطار خطّه، قضت بأن يبول صبيّان وراء الحائط، قبل ثوان مِنْ وصوله، لينساب البول نزولاً على شاكلة أفعى تسعى نحو قدمي الآتي مِن جهة عزيز المستنفر بأحاسيسه المتوجسة، كأي إنسان طبيعي يرتاب من أيّ حركة غير منتظرة في صمت الليالي الحالكة. أجفله مرأى الحركة الغريبة على الأرض، فراح يصرخ وهو يركض أفعى. أفعى. أفعى. لاقاه بقية الصبية في الطرف الثاني من الزاروب، فأخبرهم وهو يلهث عن «الحيّة» التي خرجت بطولها الذي لم ينتهِ مِنْ خربة «أبو زيدان»... عندئذ اصطحبوه إلى حيث ثأر الجميع مِنْ تبجحاته بالضحك المستثار مما رواه سليمان بسخرية لاذعة «هيدا زرّوق يا بطل...».
لم يتورع هؤلاء الصبية عن مدّ أيديهم والتطاول على كل شيء، فتحوّلت الضيعة كلّها بسطوح بيوتها وزواريبها، بحقولها ومشاغلها، حتّى الأماكن الموقّرة تحوّلت مسرحاً لنزوات التجريب عندهم. فلم يكترثوا لتنبيهات أهلهم ما داموا أصغر مِنْ أنْ يدركوا حجم العناء الذي بذله «أبو سمير الفطينة» كي يدّخر ثمن مضخّة المياه، حينما عمدوا ببراءة خالصة إلى استكشاف سر الحصانين المحشورين داخل علبة حديدية، لا يتعدى قطر دائرتها عشرين سنتمتراً، ليتفاجأوا بعجقة توصيلات كهربائية، أدّت إلى ضخّ المياه بقوّة الحصانين اللذين سمع بهما عزيز في السهرة التي كان يتحدّث فيها أبوه عن تلك العجيبة التي اشتراها أبو سمير من بيروت.
ولم ينوِ موسى إيذاء «أم دقمان» حينما دهس حقلها المزروع بشتلات الفول، وسواها بالأرض في أثناء تفتيشه عن عصفور «البو الحن» الذي أصابه على غير عادة بحجر نقفة موفقة، ومِنْ ثم انكب على غير هدى فوق هشيم الاخضرار، علّه يلتقط ذاك الشيء الذي يسمح له بالردّ على عزيز الذي دأب في اتهامه بأنه أفكح لا يصيب بغلاً قبرصياً. ولما أخذ سليمان طناجر الألمنيوم مِنْ فوق كومة الحطب في دارة «أبو هدير»، لم يفكّر لحظة في سبيل غير توفير ثمن فخَّين يصطاد بهما عصافير «البوبليق»، وقد حطمها حتّى بدت غير صالحة للاستعمال فور سماعه صوت «أبو عامر الجوياني» ينادي «ألمنيوم عتيق للبيع... صرامة عتيقة للبيع!». كل الأشياء صارت مباحة عندهم بتلقائية اندفاع صبية متحمسين لالتقاط العالم في كفّ واحتجاز أشيائه في قفص عصفور.

الصفحات