أنت هنا

قراءة كتاب انكسارات صبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
انكسارات صبي

انكسارات صبي

رواية "انكسارات صبي"؛ ... بعد عشر سنوات مِنَ الانقطاع التام، لم يحتج إلى أكثر مِنْ خمس دقائق، وهي المدّة التي استغرقتها المكالمة ليفهم مِنْ حديث صديقه عن أولاده الثلاثة، كيف يأكلون ويشربون ويضحكون، أن ثمة متغيّرات دراماتيكية لا مكان له فيها.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

غرّهم العبث بتحذيرات أهلهم، حتى إنهم انشدّوا إلى التلصص على رهبة الخالق مِنْ خلال التحرّش بممنوعات مخلوقاته، دأبوا في التسلية بالسخرية مِنْ كل الأشياء؛ حتّى أرواحهم جعلوها مسرحاً للعبث، عبر ألعاب متهوّرة أمدّتهم بشغف استكشاف الخطر في السير على حافة شيار وادي النبعة، والقفز من فوق شجرة «الدلبة». ولا عجب إن كان لكل شخص في هذا الطور فائض مِنَ الطاقة، لا يتمّ صرفه بالرويّة، إنّما يُستنفد بالعجالة والتهوّر؛ لهذا يموت البعض... وينجو بعضنا الآخر ليتذكّر «صبيناته»، منبهاً ومحذراً أبناءه مِنْ مغبّة الخوض في ما اختبر خطورته بنفسه؛ وكما استمع هو إلى أبيه مِنْ دون أن يمتثل لنصائحه، يعاود ابنه خوض التجربة نفسها، فيرتكب الحماقات ذاتها التي إن أتيح لها أنْ تتراكم وتختمر، ستخلق منه رجلاً ناضجاً وقوراً، ينظر إلى ماضيه بعين ثاقبة وعقل راجح على النحو الذي جعل «غالب الهسّي» يندم على ما فعله يوم فكّ رسن حمار أغبر، طوّل له صاحبه في خراج بلدة «الخشّة»، ومِنْ ثم أتى به إلى نهر الليطاني، ليستكشف كيف لكائن بحجمه أن يموت غرقاً. أثقل خرجه بالحجارة وامتطاه مع صبي آخر، وطلب إلى ثالث أنْ يجرّه إلى لجّة مياه عميقة. كانا يضحكان بطريقة هستيرية عندما راحا يتناوبان على إغراق رأسه في المياه، عاودا الكرّة أكثر مِنْ عشر مرّات، إلى أن نفق.
تحوّلت البراري كلّها عند هؤلاء الصبية مرتعاً لمغامرات شقية طعمها بطعم لذّة الاختبار؛ ركضوا في حقول ضيعتهم ووديانها من دون أن يستشعروا حرّ النهارات الصيفية ولا صقيع الليالي الباردة، ما داموا يغبّون شوقهم إلى الضحك والخوف والمباغتة. سبحوا مع الأفاعي في بركة حميد المعتكرة بوحل مجرى ينبوع ترابي، كان يجفّ في آذار مِنْ كل سنة، غير آبهين لخطر لدغها.
باتَ موسى يعاني عند كبره رهاب النظر إلى صورة الأفاعي، مع أنه جازف كالبقية في الغطس معها في الحوض نفسه. كانت بهجتهم في النجاة مِنْ سمّ الأفاعي تفوق الثمن المترتّب على مخالفة وصيّة أهلهم بعدم النزول للسباحة في بركة حميد، يتقبلون عقابهم كما لو أن الأمر يستأهل القيام بتلك المغامرة الشائقة التي فضحتها أم سليمان أوّل مرّة من تحوّل لون السروال الداخلي لابنها، مِن الأبيض إلى الأحمر. ركب الأولاد صهوة الشغف ليستحصلوا على ما يسلي أرواحهم التائهة بين نزوات عابرة وقِيم كابحة. لا يكبحهم مانع من اغتراف كل ما يخطر على بالهم بالنهم نفسه الذي أدى بـ «أبو الدبس» وهو لقب أطلقه سليمان على «أيهم الفاعور» بعدما سمع أمّه تقول: «ما بعرف شو صايبو هالصبي... ما بيقدر ينام طالما أنّو في البيت لحسة دبس خروب» إلى أنْ يمتطي ظهر ثور أكحل نجا مِنْ هيجانه بأعجوبة، مع أضرار بسيطة اقتصرت على ثلاثة كسور في يده اليمنى. كانوا يختلسون لذائذهم بفرح المنتصر على خوفه مِنْ تحذيرات الكبار. بقي ثمّة شيء لافت عندهم تمثّل بذاك الحرم أو تلك الرهبة التي احتلّت حيّزاً مؤثراً في نفوس الصبية مِنْ بيت «أبو الشلهوب»، وهو عبارة عن غرفتين قديمتين، كانتا مسقوفتين بفنود، مقتطعة مِنْ شجر «الزلنزخت» المرّ حتى على سوس الخشب وهذا ما جعل أهل القرى يستخدمونه سقوفاً يسندون به الطين الممدود فوق جدران حجارة صوانية، نبتت بين شقوقها طحالب وأعشاب دهرية يشبه اخضرارها الاخضرار الذي كان يظلل قبب قبور الموتى. أحاطه أهل «الدفلاية» بهالة خوف، نسجتها حكايا بعضهم عن صراخ أرواح تستغيث، سمعها «أبو منير» في منتصف ليلة دامسة، بالإضافة إلى ما نقله «أبو هاني» بعد حوالى شهرين عن همسات وأصوات غريبة داخله. إلى أنْ ضجت الضيعة كلها بخبرية «إِمّ شاهين» عن ظل رجلين عملاقين رأتهما عند الساعة الثانية صباحاً بأمّ العين يحنيان ظهريهما ليمرا مِنْ تحت قنطرة البوابة، قبل أنّ تبتلعهما العتمة.
صدّق أهل «الدفلاية» تلك الخبريات بسبب اختفاء صاحب «تلك الخربة» فجأة؛ وهو رجل سبعيني، انقطعت أخباره قبل عشرين سنة، ظهر خلالها مرتين، واحدة لأم هاني في ليلة باردة، رأته متكئاً على جذع شجرة الجوز في دارته المهجورة، وقد كسا هيئته بياض لحية طويلة، تكاد تلامس الأرض، اختفى بعدها في غضون لحظات، ثم ظهر في المرّة الثانية لأبي عدنان بصورة طيف وهو يرتدي عباءة بيضاء، لم يرَ منه الداعي إلّا عينين جاحظتين، كانتا تبرقان كعيني قطّ، مِنَ الطبيعي أن يتحوّل بعدها، هذا المكان إلى مرتع لأوهام واستيهامات غريبة، أثارت هلع صبية، تشبعت رؤوسهم في الليالي القارسة بحكايا أجدادهم عن الجنّ الذي يستهويه السكن في بيوت مهجورة. قِيل إنه يختفي، ومِنْ ثم يعاود الظهور بصورة قططة وكلاب. رآه أبو سامي مرّة على شاكلة أفعى تسعى عند المغيب نحو بيت «الشلهوب» وأردف يقول: «لم أقتلها... لأنني أدركت بحدسي الإيماني والحمد للَّه، أنها جنّ بصورة حيّة». لقد تحوّلت تلك الخبريات إلى مادة دسمة للألسن التي تناقلتها بشكل أدّى بذاك البيت إلى أنْ يصير مرتع أوهام، أو دهليز رعب ورهبة من شدّة التحليلات التي شذبت منه وأوّلت فيه الكثير، إلى درجة، أدّت بكل شخص اضطر للمرور بقربه إلى تلاوة سورة الكرسي مرتين، أو أن يتحصن بتعويذة الشيخ عبد الحفيظ. وهي عبارة عن ديباجة سور قرآنية مطوية في ورقة على طبقات، على كل مؤمن أن يلفّها حول زنده، كي يحتمي مِنْ أرواح بيت مسكون بكائنات غريبة. كاد الشيخ أنْ يبتدع مذهباً خاصاً لنفسه، بناه على سرّ هذا البيت الذي تحوّل إلى مقرّ مقدّس، يقصده المؤمنون للتبارك بلمس الحائط الشمالي لمرضى السرطان، والحائط الجنوبي لمرضى القلب. أما الأعشاب النابتة بين شقوق الحجارة، فيتمّ قطعها، لكي يحرقها الأحياء على قبور موتاهم، رحمة بهم وشفاعة لهم عند اللَّه.
«إنشاللَّه بيطلعلك جنّ بغرفة نومك...!» بهذا خاطب عزيز سليمان ردّاً على تحدي الأخير له بالقول: «إنت إنت يا مدّعي... خفت مِنْ زرّوق نادر... شو نسيت؟ على شو بعدك مشنخر منخيرك لـ فوق... بتراهن منك خمس كلل وخمسين مني. إذا ما تجرأت على تعليق هذه الحديدة على بوابة بيت الشلهوب». كان يدرك سليمان مقدار الهلع الذي يصيب زملاءه لمجرّد التفكير في الاقتراب مِنْ ذاك البيت المرهوب. لذا استغل خوفهم ليمارس عليهم في أثناء ألعابهم الليلية سطوة الاختباء بمحاذاته. فيكسب، مع أنه ليس عنيداً، فيباس رأسه يشكّل سبباً مضافاً على تأثّره بالآراء الإلحادية لأكبر أخوته هاني الذي سافر إلى فرنسا ليكمل تخصصه الجامعي بفرع لم تحفظه أمه (بيقولولو بالفرنجي «كونمي») هكذا كانت ترد على نسوة الصبحية حينما يسألنها عمّا يفعل ابنها في الخارج وتردف: ريتو يقبرني إنشا اللَّه... ما عاد إلو صفوف هون... خلصهن كلّهن. عم بيعمل شي بالاقتصاد بقولولو «كونمي» كانت تقصد Economie. رجع في العطلة الصيفية متأنقاً ذا هندام أوروبي، ومتأبطاً ثقة شاب ريفي عاد تواً مِنْ باريس إلى مسقط رأسه في ضيعة نائية تفوح مِنْ أزقتها رائحة بعر الماعز؛ فالحياة الباريسية عصفت ببساطة «ابن الدفلاية» فحولته إلى إنسان لا يشبه نفسه. بعد أن نسي أصله وهو ابن فلّاح يعتاش من زراعة التبغ.

الصفحات