أنت هنا

قراءة كتاب انكسارات صبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
انكسارات صبي

انكسارات صبي

رواية "انكسارات صبي"؛ ... بعد عشر سنوات مِنَ الانقطاع التام، لم يحتج إلى أكثر مِنْ خمس دقائق، وهي المدّة التي استغرقتها المكالمة ليفهم مِنْ حديث صديقه عن أولاده الثلاثة، كيف يأكلون ويشربون ويضحكون، أن ثمة متغيّرات دراماتيكية لا مكان له فيها.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

(2)

لم يكترث سليمان بادئ الأمر لغياب موسى؛ حتّى وإن استشعر وحشة افتقاد أخيه، إلّا أنّه قرّر أنْ يتغلّب على عواطفه التي كانت تهتاج كلما حنّ إليه عند المبيت، حالما يدخل وحده إلى حيث كانا يلهوان في مخدعهما قبل النوم على ما يمكن أن تشاهده بين جروين صغيرين يتعاركان فوق سريرهما الذي تحول إلى حلبة مصارعة. كانت الأمّ تعمد إذ ذاك إلى توبيخهما بصوت خفيض، كي تنقذهما مِنْ غضب والدهما الذي كان يضربهما إذا ما تماديا في الضجيج والصراخ.
خفت غيظ سليمان بمرور الوقت، ولم يعد متحسّراً على منح موسى أفضلية تتصل بأسباب غير التي ساقتها الأم لإقناع ابنها بالشروط غير المتوافرة له، لأنّ فرق السن في رأيه لا يعد سبباً وجيهاً لرفضه هو وقبول أخيه. اشتاق إليه كثيراً، وهذا ما صار يدفعه عقب كل زيارة يقوم بها أبوه إلى الاستفسار عما إذا حمل إليه كيسي «الفستقية والسمسمية».
بعث إليه سليمان مرّة تسع «كلل» حصل عليها بأسلوبه الخاص مِنْ ابن عائلة ميسورة يُدعى فراس، استدرجه للرهان على لعبة «الطرة والنقشة» ولما خانه الحظّ وخسر، طلب سليمان إليه أن يقرضه إياها لمدة يومين. وحين رفض الصبي أن يتخلّى عن حقّه، عاجله سليمان بلكمة قويّة، طرحته أرضاً. وهذا ما أتاح له الهرب بالكلل التي لمها عن التراب.
كان معروفاً بأن سليمان شرس بطبعه، وهو ليس كأخيه مطلقاً. «سبحان اللَّه على خلقه... أيعقل أن يولد هذان الاثنان مِنْ بطن واحدة». بهذا الاستغراب كانت الحاجة «أم ناهل» ترد على ما كانت تسمعه من خبريات حول ممارسات سليمان واعتداءاته، في حين بانت على موسى منذ سنواته الأولى، تصرفات شخص غريب الأطوار. يقلّد جديّة الكبار ويتمثّل بوقارهم وعبوس نظراتهم، حتّى تخاله رجلاً بهيئة طفل؛ وقد تحسبه قزماً ما لم تشاهد لمعان عينيه الذي يشي ببراءة الولد المغتبط حماسة في اللعب مع أولاد مثله، ألفوا غرابته بالرغم من عدم فهمهم لعلّة تفرّده بنظرات بعض المارة الذين لفتهم منظر ولد لا يشبه نفسه...! ولطالما ورّطته تكشيرته المعهودة في عداوات، لا تلبث أن تتلاشى بعد أن يعتاد الأولاد عليه كواحد منهم، له ما لهم، ما دام يقبل الخسارة بالتجهّم نفسه لقبوله الربح في ألعابهم المتنوعة التي إذا ما فرضت قسمة الأولاد، فهو حتماً رئيس إحدى الفرقتين، يوزّع الأدوار على أفراد جماعته ويأمرهم بلهجة حازمة تنمّ عن ثقة العارف بما يتهامس به أفراد الفرقة الثانية. لهذا تجده لا يتحمس للألعاب الفردانية؛ لأنّ «الغميضة» ليس لها رئيس، كما أن كرة القدم تتطلب قوّة بدنية ولياقة غير متوافرتين في جسده النحيل. ففي هذه الحالة تراه هو المدرّب، يتقمّص الدور كما لو أنه خلق ليكون قائداً في توجيهاته التي تنمّ عن صدق الحالة التي يعيشها وهو يأمر هذا وينصح ذاك.
«لقد وضع اللَّه سرّه في أضعف خلقه»، هذا ما كانت تكرره الحاجة «أم خليل» كلما صادفت أخاه سليمان يركل تنكة مِنْ هنا ويشد حبلة مِنْ هناك. إذ قلما شاهده أحد يمشي كالناس. حتى وصل الأمر «بأبو هاني الشعيباني» إلى أن راح يصفه بالشقاء المنتقى في شكل إنسان ممسوس بروح جنّ. صرح برأيه هذا عندما أخبرته امرأته بعثورها على دجاجتهم «الحلطة» نافقة في الحاكورة بضربة حجر... ولأنّ صيت مشاغباته، لا تحتاج إلى دليل... فإذاً هو من اعتدى على قن أم نبيهة، وهو حتماً مَنْ تسلّل إلى زريبة وهيب الشتوي في الليل التي فُقِدَ فيها جدي العنزة الكحلة، حتّى دالية السيّد أبي إبراهيم التي سُرقت في خلال اليومين اللذين قضاهما سليمان عند أخته في بيروت «لم تسلم مِنْ يده الطويلة» بحسب ما قالته أم صبحي؛ هذا قبل أن تتأكّد خبرية غيابه عن الضيعة، مما أبقى لغز السرقة مفتوحاً أمام تكهنات، لم تذهب إلى أبعد مِنْ احتمال أن يكون هو مَنْ أوصى بها لأحد الصبية. أما في حضوره فباتت الأم تتوجّس في كل ظهيرة تمرّ، مِنْ دون أن تطمئِنّ إليه، عبر شكوى تدل على أثره الصاخب أينما حلّ.
«شو بدي إعمل بهالصبي خلق هيك متل العفريت..». بهذه اللازمة التي ما برحت الأم تكرّرها على مسامع المشتكين، أعفت خديجة ابنها من تلك الرذالة التي خلقه اللَّه بها. إلّا أنها كانت مدركة في قرارة إحساسها به وهو في بطنها، أنّ أمثاله عاصون على الإصلاح. لذا سلّمت أمره إلى ربّها، علّ الزمن يخفّف مِنْ غلو تماديه، بعد أن فشلت كل محالاوت ثنيه عن شيطناته. كان أصغر حينما جرّبت حرمانه من الحلوى بحسب لائحة ممنوعات، أدرجها الطبيب في وصفة طويلة، منعته عن السكر ـ والشوكولا ـ الفواكه المجفّفة و... و... إلخ.
ولما يئست لجأت الأم إلى عرّافة تُدعى «أم رهام» علّها تشفيه بأرواح الأنبياء والأئمة الصالحين. سألتها في البداية: بماذا توحمت وأنتِ حبلى به؟
ولما كان السؤال أصعب مِنْ أن تتذكّره امرأة أنجبت عشرة أولاد، راحت الأم تستنبش ذاكرتها المشوشة بزحمة هموم كثيرة. قالت: «إيه تذكّرت «مقادم ماعز»... [وأردفت] لا واللَّه محتارة بينه وبين أخوه مفيد». وسكتت على ما يظهر مِنْ شرود نظراتها نحو ماضي الذاكرة؛ تركيز فائق، علّها تلتقط قرينة ما تحسم بها لغط تشوشها، بقيت على هذه الحال مستغرقة بضع ثوانٍ قبل أن تنطق بالقول: «كان موسم... موسم... موسم... حصاد العدس... اشتهيتها وقتذاك مع أنه لم يسبق أن خطرت على بالي؛ لأنّ مذاقها زنخ، ولأني أكره شعوري بفكرة التهام إنسان قوائم حيوان، كان يمشي وله روح. فهذا يخيفني ويقرفني...!» وقبل أن تسترسل الأم بعيداً إلى ما لا تحتاج إليه «أم رهام»، قاطعتها على ما يستدل من الكلام، بأنها التقطت سرّ مطابقة سلوك سليمان مع المعنى الباطني لـ «توحيمة» الأمّ بمقادم عنزة ممسوسة بروح جنّ. وقالت: لا مفرّ من أنْ تصطحبيه إلي غداً لنقوم بالعملية التي لن تتطلب أكثر من ثلاث جلسات، كي نحصل على النتيجة الأكيدة، ونطرد منه هذا المسّ العفريتي... واللَّه الشافي... [وأردفت]: لا تنسي أنْ تقصّي لي خصلتي شعر من فروة عنزة.
ولما فشل سبيل علاجه «بالروحانيات»، فقد أهله الأمل وقرروا أن يتآلفوا مع منغصات العيش في ما كتبه اللَّه لهم، مع ولد شقي وعاق، يسخر مِنْ ورع الكبار ويغتبط لمغافلتهم، فضلاً عن جنوح ابن الثاني عشر بطبعه، إلى التمرّد، وتجربة مقدرته على تجاوز ما كانوا يخيفونه به.

الصفحات