أنت هنا

قراءة كتاب الراوي: الموقع والشكل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الراوي: الموقع والشكل

الراوي: الموقع والشكل

يقدم هذا الكتاب دراسة لموقع الراوي في السرد الفني المعاصر من خلال قراءات لـ"التيه" لعبد الرحمن منيف، و"رائحة الصابون" لالياس خوري من كتابه "المبتدأ والخبر"، و"ميرامار" لنجيب محفوظ، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

مقدمة الطبعة الأولى

شكّل موضوع هذا الكتاب همّاً عندي يعود تاريخه إلى العام 1982، ويعود تاريخه غير الواضح إلى أبعد من ذلك.
ففي أواخر ربيع عام 1982 أقيمت ندوة في بيروت[1]، عالجت موضوع الرواية العربية المعاصرة في إطار البحث في الثقافة الوطنية الديمقراطية، ساهمتُ في هذه الندوة بمداخلة طرحت فيها سؤالاً حول مفهوم الراوي الذي هو أداة وظيفية دالّة.
لكن سؤالي، وكما بدا لي، غرق في الندوة، ربما لأنه كان يقف دون حدود تعيين موضوعه في تفاصيله وأبعاده، وربما لأنه طُرح في محيط كلامي كان معنيّاً في لحظته الحارة آنذاك، بموقع الثقافي أكثر مما كان معنيّاً بفنّية هذا الموقع، هكذا وجدتُ نفسي، وقد وقع الاحتلال الإسرائيلي علينا، بعد أيام معدودة من تلك الندوة، أصغي إلى سؤال آخر، عن راوٍ آخر،. يصيبنا بالموت والدمار، ويملأ فضاءنا بلون الدم والجحيم.
تراجع آنذاك سؤالي البرعم، وتراجع معه بحثي عن هذا الراوي الفني ووظيفته الدّلاليّة، لكنه بقي يجري كالمياه الهادئة في سهل واسع يحاول أن يرى خيوط الترابط ويشق مساراً، ربما ليس عميقاً، لكنه قادر على أن يجعله لا يأسن، ويخوله التقدم باتجاه المعرفة.
هكذا، ولما كانت ندوة الدار البيضاء في المغرب ربيع عام 1985 [2]، تحفّز سؤالي مجدداً، فقمتُ بالمحاولة، محاولة البحث عن موقع الراوي في نص «أوديب ملكاً».
اختياري لهذا النص اليوناني الأصل، المنقول إلى العربية، يبدو نشازاً في سياق كتابي الذي ركّز، فيما بعد، على القصّ العربي، حتى إنه يمكن القول إن كتابي، هو في حقيقته، بحث في السرد الفني العربي المعاصر، لذا، لا بدَّ وأن يسأل القارئ: لِـمَ كان هذا الاختيار؟ ولِـمَ وضع هذا النص بين هذه النصوص العربية؟
وتراني بصراحة أقول للقارئ، بأن مثل هذا السؤال لم يخطر ببالي إلا بعد أن تقدمت في البحث وشارفت النهاية منه، كأني كنت قبلاً مسوقة بشوق المعرفة، بسؤال يكشف لي هُويّة الموقع، بغضّ النظر عن هُويّة النص اللغويّة، فبهويّة الموقع كان يبدو لي أن النص ينبني، وبهذه الهويّة يتميّز طابعُ البنية ونمطها.
مع هذا الشوق المعرفي لم أكن أفرق بين نص كُتب أصلاً بالعربية وآخر نُقل إليها، فالثقافي له أحياناً سمة الشمولية، يتجاوز اللغوي في اللفظي، ليلتقي وإياه في الدلالي.
لكن، إذ ذاك، قد يكون السؤال: لماذا نص «أوديب ملكاً» بالذات وثمة نصوص روائية أخرى كثيرة ومنقولة إلى العربية؟.
صحيح لماذا هذ النص، نص «أوديب ملكاً»؟
لن أشير إلى الأسباب العامة، والعارضة، التي يمكن أن تطرح على كل ناقد وكل قارئ مما هو جوابه الصدفة أو الظروف إلخ.. بل أكتفي بالإشارة إلى أن اختياري لنص أوديب كان واعياً ومقصوداً: ذلك أني لئن كنت لم أطرح مسألة اللغة في لفظيتها كعائق لاختياري، فذلك لأنني كنت مقدّرة لما يتميّز به هذا النص من إحكام في البنية يُعين تحليلي، ويُسهل شغلي، وبالتالي يخوّلني بلورة سؤالي، خصوصاً وأن نص الترجمة العربية الذي اعتمد بدا لي غير مخلّ بهذا الإحكام:
فنصّ أوديب هو نصّ كلاسيكي، متماسك الصياغة، مبنيّ على احترام قواعد تتعلق بالزمان والمكان، وتفرض، في الوقت نفسه، شوق القراءة ومتعتها، أضف أن هذا النص يبقى، وإن جاء بأسلوب الحوار المسرحي، حكاية لها مقدمة وعقدة وحل/خاتمة، لذلك فهو بحبكته الكلاسيكية هذه، يقدم مادة طيعة للتحليل الهيكلي، في حين تتكشّف صياغتهُ عن صعوبة في إظهار هويّة الموقع: إن شخصية أوديب المأزقية تخفي هويّة موقع الراوي المتحكّم في النص، أي بالقول فيه، حتى ليبدو المنطق، الذي به تترابط الأفعال، في هذه الحكاية، منطقاً ملتبساً، وربما أغرى بنقيضٍ له.
لكن دراستي لنص «أوديب ملكاً» التي تقدمتُ بها لندوة الدار البيضاء حملتني، بما كشفته لي حول مسألة الموقع، على إعادة النظر فيها، فجاءت، في هذا الكتاب، مغايرة لنصها الأول لجهة التدقيق، والتوسيع والتوضيح والإضافة.
ثم تتابع عملي على عدد من النصوص العربية التي رحت ألمس فيها تنوعاً في مواقع الرواة، وفي أنماط البنى، فارتأيت اختيار ما يقدِّم منها مروحة، ولو محدودة، لهذا التنويع، علّها تصل بنا إلى شيء!
وعليه فقد كان اختياري لهذه النصوص التي قدمت، محكوماً بموقع الراوي فيها، وبنمط بنيتها، دون أن يعني ذلك إغفالي، وضمن هذا الاختيار، ما تتميّز به هذه النصوص، إن من ناحية تقديم تجربة جديدة وإن من ناحية الإبداعية:
فنحن مع «التيه» لعبد الرحمن منيف، مثلاً، أمام نص إبداعي يشكّل فاصلة هامة في سياق سردنا الفني العربي. إنه نقلة نوعية، شكْلٌ فني لمنطوق الناس في تعدده واختلافه وفي تفاوته وتناقضه، شكْلٌ ينهض من موقع يتَّسع مدى منظوره، فيطرح سؤاله حول معنى الديمقراطي في الفني الأدبي.
ونحن مع نص إلياس خوري أمام تجربة تستأهل الدراسة، لما لها من ارتباط بالمسألة الثقافية، أو بديمقراطية الموقف في اللغة الأدبية، هكذا يصل خوري إلى إقامة بنية اللاموقع مثيراً سؤالاً ضمنياً حول معنى الديمقراطية في العمل الذي يصوغ.
وقد لا أكون بحاجة إلى الإشارة إلى أهمية رواية نجيب محفوظ «ميرامار» التي قدمت للسرد الفني العربي نمطاً من البنية متميّزاً في الشغل على ديمقراطية فنية لموقع الراوي الذي تعدّد وعبّر، بتعدّده، عن اختلاف زوايا النظر وعدم كليتها. في حين تبقى «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح نموذجاً رائعاً للحوارية.
لئن كان عملي قد ركّز على بلورة مسألة الموقع للراوي، وحاول، في حدود قدرته، إظهار دلاليّة الشكل بإظهار العلاقة العضوية بين موقع الراوي ونمط البنية التي بها يقول، فإنه حاول أيضاً قراءة الإيديولوجي بقراءته الفني، وذلك عن طريق البحث في علاقة الراوي بما يروي وبمن يروي، وفي ما يستخدمه الراوي من تقنّيات تساعده على تحقيق روايته، أي، على إقامة تركيب لغوي فني.
ليس استخدام التقني عملاً بريئاً، ومن ثم ليس الفني عملاً أثيرياً، صافياً أو منزهاً، بل هو نشاط بشري، يعبّر ويقول، وهو، من حيث هو كذلك، إيديولوجي[3] للقائل موقع فيه.
وقد يكون بإمكان القارئ أن يقول بعد انتهائه من قراءة هذه الدراسة: إن القول السردي يكتسب فنيته «بديمقراطيته»، أي بانفتاح موقع الراوي على أصوات الشخصيات، بما فيها صوت السامع الضمني، فيترك لهم حرية التعبير الخاص بهم، ويقدم لنا منطوقاتهم المختلفة والمتفاوتة والمتناقضة، وبذلك يكشف الفني عن موقع في الثقافي ـ السياسي قوامه حرية النطق والتعبير.
يبقى لي أن أقول للقارئ في نهاية هذا التقديم، بأني لم أتوقف طويلاً ، في كتابي هذا، على بعض المسائل النظرية التي تناولتها، والتي جاءت فصولها، كما هو ملاحظ، قصيرة وموجزة. وأنا لم أفعل ذلك من قبيل التقليل من أهمية النظري، بل لأنني، نقديّاً، أفضل أن يوصلني البحث في النصوص، إلى هذا النظري، أي أفضّل أن يخوّلنا البحث في النصوص، استنتاج النظري أو معرفته. وأنا طبعاً قمت ببحثي، اعتماداً على منطلقات نظرية، لا يصعب على القارئ المعني بمعرفتها، كشفها في هذه المحاولة التي أقدم. علّه يحاول!
يمنى العيد
17/3/1986

الصفحات