يقدم هذا الكتاب دراسة لموقع الراوي في السرد الفني المعاصر من خلال قراءات لـ"التيه" لعبد الرحمن منيف، و"رائحة الصابون" لالياس خوري من كتابه "المبتدأ والخبر"، و"ميرامار" لنجيب محفوظ، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح.
أنت هنا
قراءة كتاب الراوي: الموقع والشكل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
التعبير ومسألة الموقع
في دراسة لنا سابقة تكلمنا فيها على «القول الشعري»[5] أوضحنا علاقة الشعر باللغة، وكيف أن الشعر، من حيث هو قول، يصير شعرياً بأدوات ومفاهيم خاصة.
إلا أن اعتبارنا القول الشعري قولاً لغوياً لم يكن من منطلق نزعة لغوية تجرد الشعر وتطلقه، إذ تجرد اللغة وتطلقها، فتعزله عن جذوره الاجتماعية وأجوائه النفسيّة، بل على العكس، كان ذلك من منطلق إظهار الجذر الاجتماعي للقول الشعري، من حيث هو قول لغوي.
لقد أظهرنا هذا الجذر بإظهارنا أن القول هو نشاط تعبيري حيّ، له طابع الحوار ينشأ في العلاقة بين الناس في المجتمع. فالقول نشاط نطقي مشدود إلى حاجات الناس ومصالحهم، إلى رغباتهم وأحلامهم. في تكوّنه يمارس المتكلم فعل تملك اللغة، أي فعل إعادة إنتاجها، وبالتالي نموّها وتحوّلها.
ونحن في هذا السياق أوضحنا الهويّة الإيديولوجيّة[6] للقول معتمدين في ذلك نظرية الباحث والمفكر باختين. هذه النظرية بيّنت أن اللغة كون إيديولوجي، فضاء من العلامات، فيه وبه يتكوّن التعبير:
فالناس الذين يعيشون في مجتمع، يمارسون نشاطهم التعبيري في هذا الفضاء الذي تستقل فيه العلامات والذي يشكل، بحكم هذا الاستقلال، مستوى معيّناً من مستويات المجتمع، عليه نرى إلى النشاط الثقافي في حقوله المختلفة: كالحقل السياسي، مثلاً، وحقل التشريعات الحقوقية، أو حقل المعتقدات... إلخ.
كما أننا أوضحنا، في تلك الدراسة، كيف أن التعبير الذي يمارسه الناس، كنشاط نطقي، في العلاقات فيما بينهم، هو تخاطب أو تحاور، وهذا يعني أن التعبير ليس واحديَّ المنبت، وإن بدا كذلك أحياناً، حين يأتي الكلام بوحاً بضمير الـ «أنا» أو حين يعتمد الأديب المونولوج أسلوباً للتعبير.
التعبير ثنائي المنبت، بمعنى أنه من أ إلى ب، وفي الوقت نفسه، من ب إلى أ، كل متكلِّم هو أيضاً، وفي الوقت نفسه، مستمِـع. أو، كل مستمع هو أيضاً، وفي الوقت نفسه، متكلِّم. فالكلام مخاطبة وتوجّه، إصغاء لنطق ونطق. إنه علاقة.
إذا كان التعبير علاقة تخاطبيّة، أي حواريّة، بين الناس الذين يعيشون في مجتمع، فهو، وبحكم كونه كذلك، ذو طابع صراعي[7]، أو طابع تناقضي. هذا الطابع هو نفسه طابع العلاقات الاجتماعية بين الناس. إنه طابع ممارساتهم الماديّة، من حيث هم طبقات وفئات في مجتمع، لهم مصالحهم، وحاجاتهم، كما لهم رغباتهم وأحلامهم المختلفة، غير المتماثلة فيما بينها، بل المتفاوتة حيناً والمتناقضة حيناً آخر.
هكذا يتسم القول، ومن حيث هو تعبير لغوي، بطابع الصراع الذي يحكم علاقات الناس الماديّة، وممارساتهم الاجتماعيّة.
وهكذا يأتي الكلام حواراً يطرح أسئلته، أو يقدّم أجوبته الحاملة لأدلتها وبراهينها، لمنطقها، كي تكون مقنعة في توجُّهها لمن تخاطبه أو تحاوره.
يأتي الكلام، حين يأتي، حواراً، مساءلة أو نقداً، يأتي مناقشة، قبولاً أو رفضاً، فهماً يسوغ كلاماً آخر... وهو بذلك يشير إلى اختلاف المواقع التي منها ينبني وبها يصدر.
يموت النشاط التعبيري، أو يفقد ديناميّته حين يفقد النطقُ قلقَه، أو مساءلته. حينذاك تغيب المواقع، أو يُغيَّب اختلافها، وتُقمع في التوحد. تتماهى الأصوات بعضها في بعض، في الواحد الكلي، البسيط، المتجوهر بتماثله بذاته. تفنى الأصوات في صوت الخطاب، تتراجع دائرة النطق نحو مركزها، يضيق محيطها، يسقط الكلام، يمّحي، لتبقى واحدية اللغة.
ليس من قبيل الصدفة أن تتسم اللغة بالخواء، أن تتحنط وتفقد نكهة الحياة في مجتمع خنق التسلّطُ فيه التعبير، وأفقد الممارسةَ التعبيريَّةَ شرط نشاطها وتحولها، أي حياتها. وليس من قبيل الصدفة، بالتالي، أن يشترط ازدهار التعبير حرية غير مرهونة بنظام المؤسسات وسلطتها.
* * *
هذا ما سبق وقلناه في دراستنا التي أشرنا. أوجزناه هنا لنتابع محاولتنا، بالنظر إليه، فنوضح بأنّ التعبير الذي ينهض في كون العلامات، في هذا الفضاء الإيديولوجي، إنما ينهض من مواقع له: لئن كان التعبير ممارسة إيديولوجية لعلاقات الناس فيما بينهم، فإن هذه العلاقات تنطلق من مواقع للناس في المجتمع. وهي محكومة بهذه المواقع، تقولها باتجاه مَنْ تخاطِب. هكذا، وحين ينتظم التعبير وينبني إنما ينتظم وينبني وفق منطقٍ خاصّ هو أثرٌ لموقع ينهض منه، أو لإيديولوجي يسمه ويحكمه.
الإيديولوجي هو في الرؤية، في الوعي، في الحاجة، في الجمالي، في الفرح، في الحزن إلخ... إنه في اختلاف العلاقة تبعاً لمواقع الناس من مرئيهم ومن هذا الذي يتعاملون معه حساً وإدراكاً وتوهماً وحلماً وحقيقة إلخ...
ليس لنا أن نختلف حول ما إذا كان التعبير إيديولوجيّاً أم لا، فكل تعبير هو بهويّته الاجتماعيّة التاريخيّة، تعبير إيديولوجي. لأنه، وبحكم هذه الهويّة، أي بحكم الممارسة والمراكمة والتحويل، مفارق[8] لواقعه المادي، واقع الموجودات الماديّة[9]، التعبير ممارسة بالعلامات اللغوية. بهذه الممارسة تفارق العلامة، باستمرار، مرجعها. أو قل: إن العلامة تنزع إلى مفارقة مرجعها بالاستعمال. تفارقه إذ تُنسَج في العلاقات المجتمعية، تفارقه وتحيل عليه. هكذا يختلف الكلام عن الكلام ويستمر النقاش والصراع بحثاً عن حقيقة مرجعية هاربة.
في عمليّة المفارقة والإحالة يولّد الدالّ مدلوله المختلف، يحقِّق ذلك بفعل الصيّاغة، أو بفعل ما نسميه إبداع الأسلوب الخاص.
يمارس التعبير/الصِّياغة فعل تملّك اللغة، إنتاجها وتخصيصها، ينسج الفاعلُ (المتكلم/الكاتب) القول، يبني تركيبه الخاص ليجعل اللغة قادرة على قول ما يحتاج، أو ما يريد قوله، أو ما يصبو إلى قوله.
هكذا يولّد التعبير/الصياغة مدلولاته المفتوحة على الزمن.