أنت هنا

قراءة كتاب الراوي: الموقع والشكل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الراوي: الموقع والشكل

الراوي: الموقع والشكل

يقدم هذا الكتاب دراسة لموقع الراوي في السرد الفني المعاصر من خلال قراءات لـ"التيه" لعبد الرحمن منيف، و"رائحة الصابون" لالياس خوري من كتابه "المبتدأ والخبر"، و"ميرامار" لنجيب محفوظ، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

يصوغ المتكلم تعبيره، أو ينطق ويقول، من منطلق علاقته بموضوع كلامه، أي من منطلق رؤيته، أو حاجته، أو تقديره، لهذا الموضوع. ومن ثم فهو، أي المتكلِّم «منحاز» بهذا التعبير، لما يراه أو يحسّه، أو يقدّره، إنه بالتالي، مدافع عن هذا الذي يراه، أو يحسّه، أو يقدّره، وصاحب أثر فيه.
يتوجه المتكلم بتعبيره إلى مخاطب/سامع، قد يختلف عنه في رؤيته أو إحساسه أو تقديره، أي قد يكون له ـ للسامع ـ منطلق آخر يتسق وموقعه الاجتماعي المختلف. فتختلف العلاقة بموضوع الكلام المشترك، أو بهذا المرجعيّ العام للكلام. هكذا يصوغ المخاطَب/السامِـع تعبيرَه ويتوجّه به إلى المتكلِّم/المخاطِب وقد أصبح هذا الأخير مخاطباً/سامعاً.
يختلف التعبير في نطاق علاقة مزدوجة:علاقة المتكلم/المخاطب بموضوع كلامه من جهة وعلاقته بالمخاطَب/السامع من جهة أخرى. ويغدو التعبير لا مجرد عملية تلفّظ، بل عملية تحويل وامتلاك[10] للكلام/اللغة. إنها عملية إنتاج لغة تقول. لذا فهي مختلفة وجديدة ومحوّلة.
لكن، إذا كان التعبير نشاطاً نطقياً يمارسه الناس على المستوى الإيديولوجي في المجتمع في نطاق العلاقات فيما بينهم، وبالتالي، إذا كان من غير الممكن الاختلاف على ما إذا كان التعبير إيديولوجياً أم لا، لأنه بطبيعته كذلك، فإن الاختلاف قد يظهر، بل هو ظاهر عندنا في مجال الثقافة، حول المواقع التي منها ينهض التعبير.
يخلط الكثيرون بين المستوى الإيديولوجي والموقع فيه، فيقول بعضهم، في معرض كلامه، مثلاً على أعمال أديب، وعلى الموقع الذي في هذه الأعمال: هذا موقع إيديولوجي، وهذا موقع غير إيديولوجي؛ ثم ينعت الموقع غير الإيديولوجي بالموضوعية مثلاً، أو بغيرها من النعوت بغية إثبات صحتها وعدم صحة غيرها، وقد يقول البعض لدى سماعهم كلاماً: هذا كلام يصدر عن موقع وذاك كلام لا يصدر عن موقع. ينفي أصحاب هذه الأقوال الموقع لقول، ويثبتونه لآخر، قصد نفي الهوية الإيديولوجية لكلام وإثباتها لآخر، أو قصد نفي هذه الهوية لموقع وإثباتها لآخر.
لكن، إذا كان التعبير، وبحكم طبيعته الاجتماعية، إيديولوجياً، أي إذا كان التعبير لا يطابق الواقع، وينهض على مستوى مفارق للموجود المادي، هو مستوى النظر، أو الوعي، للعلاقة بين المتكلم وموضوع كلامه من جهة، وبينه وبين السامع/القارئ من جهة ثانية، فإن للموقع الذي منه ينهض التعبير وجوداً فعلياً موضعياً قائماً في الاجتماعي ـ الثقافي، لا يناط أمر إثباته أو نفيه بإرادتنا.
كل تعبير، هو تعبير من موقع، وكل موقع هو موقع إيديولوجي. إنه موقع يقول، والقول علاقة، والعلاقة نظر باتجاه موضوع، وتوجه إلى مخاطب... وفي هذه منشأ لإيديولوجي يسم مواقع النظر والتوجه، يتفاوت بتفاوت هذه المواقع. يختلف ويتناقض باختلاف وتناقض هذه المواقع في العلاقة الاجتماعية فيما بينها.
يظهر اختلاف المواقع في اختلاف أشكال الوعي والتفكير، ويمكن القول أيضاً، إن اختلاف أشكال الوعي والتفكير مؤشر على اختلاف الموقع الذي يجد سبيله إلى تنويع لغات القول.
في هذا الصدد قد نسأل: كيف يمكننا أن نرى إلى اختلاف المواقع وتعددها، وكيف يمكن الكلام على المواقع حين لا يكون كلام بلا موقع؟ وهل تغرقنا المواقع، باختلافها المستمر، وربما اللامحدود، في تفتت الكلام فتصل به إلى فوضاه؟
لا يتحدد الموقع بذاته، لأنه ليس قائماً بذاته، بل هو قائم في علاقة مع موقع آخر، وفي إطار هذه العلاقة يتحدد: يرى الموقع إلى الموقع الآخر، فيرى إلى اختلافه معه فيولد الصراع الذي هو في وجهه الأهم دينامية الحركة والنمو والتحول.
لكن اختلاف موقع مع موقع آخر، إنما هو اختلاف بالنظر إلى موضوع، ضمن وضعية اجتماعية معيّنة، في زمن تاريخي معين. لذا فإن اختلاف موقع مع آخر ليس هو فقط اختلافه عنه، بل هو أيضاً اختلافه معه على موضوع يريان إليه. وهذا يعني أن الصراع بين موقعين ليس هو صراع الذوات المجردة، كما أن الاختلاف ليس اختلاف هذا نسبة إلى ذاك، إنما هو صراع في واقع ولواقع يخص الناس ويجدون لهم مواقع فيه.
لا يختلف موقع عن موقع في علاقة نسبية مطلقة، إن الاختلاف النسبي هذا، مرشح لأن يجعل من أحد الموقعين مركزاً به يتحدد الموقع الآخر وبه ينوجد. إن إسقاط مسألة الموضوع، هذا الواقع الذي فيه وبه يكون الاختلاف يصل بأحد الموقعين لأن يكون في علاقته بالموقع الآخر، ذيلاً أو تابعاً، أي لأن يكون بلا وجود فعلي. أضف أنه قد يصبح موقعٌ ما، بتحدّده نسبة إلى موقع مركز، عبارة عن ردة فعل مشروطة لا بخصائص الموقع المركز فحسب، بل أيضاً بوجوده. إن مثل هذه العلاقة تخلق وتؤكد طبيعةً جوهرية لموقعٍ مركز ينفي بها كل موقع آخر. كما أن مثل هذه العلاقة قد تغري المواقع بالنزوع باتجاه الموقع المركز بغية القيام بعملية الاستبدال.
هكذا، وعلى هذا الأساس من الفهم للعلاقة بين المواقع، يصبح هناك موقع هو الـ «موقع»، وهناك موقع يتحدّد به. الأول هو صاحب النطق والتعبير، هو: الـ «قائل»، أو هو: الـ «متكلِّم». صاحب البلاغة، سيدها ومنبرها. والثاني هو مجرد متلقٍّ، سامع، ليس له أن يقول أو ينطق ويعبّر، بل له أن يصغي ويتعلم. أو قل ليس له أن يقرأ، وينقد، ويمارس فعل التحويل الثقافي، بل له أن يستمر في قبول الـ «ثقافي» القائم والسائد وصاحب السطوة، لا لغة إلا هذه اللغة الواحدة التي لهذا الثقافي القابع على منبر المعلِّم، ولا صوت إلا صوته الواعظ صاحب الخطاب الـ «حق».
وهكذا لا جميل ولا نافع ولا ممتع ولا ممكن ولا حقيقي، إلخ... إلا ما هو كذلك في نظر من هو في الـ «موقع» الذي لا موقع سواه. لذا يبطل الاختلاف والتفاوت، يتراجع التعبير ليصير مكبوتاً، أو ليختزل في الشعار، وفي المقبول من الحِكَم والتعاليم، أو ليموت في واحديّة الموقع.

الصفحات