يقدم هذا الكتاب دراسة لموقع الراوي في السرد الفني المعاصر من خلال قراءات لـ"التيه" لعبد الرحمن منيف، و"رائحة الصابون" لالياس خوري من كتابه "المبتدأ والخبر"، و"ميرامار" لنجيب محفوظ، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح.
أنت هنا
قراءة كتاب الراوي: الموقع والشكل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الكتابة والتحولات الاجتماعية
صيغة الموضوع
ما الذي نريد أن نوضحه في كلام يتخذ موضوعاً له: «الكتابة والتحولات الاجتماعية»، وهل تشكّل هذه العبارة موضوعاً؟ إذ ذاك كيف يتحدد هذا الموضوع، وما هو سؤاله؟
والواقع إن هذه العبارة المطروحة على أنها موضوع، تبدو للناظر فيها عنواناً عريضاً لا يحدد سؤاله، بل يكتفي بوضع الكتابة مع التحوّلات الاجتماعية، يعطف بينهما مشيراً، بهذا العطف إلى مجرد وجود علاقة. في هذه العلاقة تبدو الكتابة طرفاً، كأنه كلي، وتبدو التحولات الاجتماعية طرفاً آخر كأنه أيضاً كلي.
وفي هذا الذي يبدو تبرز مجموعة أسئلة، لا نتوجه بها إلى الصياغة كشأن شكلي. بل من حيث إن الصياغة هي قول دال على نظرة فكرية للموضوع الذي يصوغ، فيقول.
ولا يثنينا عن طرح هذه الأسلة كون موضوع «الكتابة والتحوّلات الاجتماعية» جاء، في هذه الندوة[13]، تحت عنوان أعم وأشمل هو «جدلية الإبداع والواقع»، أي تحت عنوان يصف العلاقة بين الطرفين فيها، بـ «الجدلية»، أو كون موضوع «الكتابة والتحولات الاجتماعية»، وعنوانه الأعم والأشمل: «جدلية الإبداع والواقع»، يضمران نظرة توحي بطابع الجدّة والاختلاف، أي توحي بأن العلاقة ليست، وكما اعتدنا أن نقول، بين «الأدب والواقع»، أي بين ما له طابع المنجز والعام، بل هي بين «الإبداع/الكتابة» و«التحوّلات الاجتماعية» أي بين ما له طابع الفاعلية، الخلق والولادة، وبالتالي الاستمرار والتحوّل.
إذاً، ثمّة جديد في صياغة الموضوع. جديد يستبدل طرفي العلاقة بما يوحي باختلاف الدلالة، فيصف هذه العلاقة بالجدلية.
لكن هذا الذي نلاحظ، هذا الجديد المضمر في صياغة الموضوع، لن يثنينا عن طرح أسئلتنا، بل لعله هو الذي أثارها، أو زاد من ضرورتها وربما أضاف إليها أسئلة أخرى.
ونحن بدءاً نوضح: أن هذه الأسئلة التي تبرز أمامنا لا تتعلق بمبدأ وجود الكتابة في علاقة مع طرف آخر (لا نحدده، فربما تكون الكتابة في علاقة مع موجود طبيعي، أو مُنتج، وربما تكون في علاقة مع كتابة أخرى. وربما تكون، ومن حيث هي علاقة، مع علاقة أخرى... فهذا الطرف الآخر لا يعنينا الآن). نحن لا نجادل في هذا الشأن المبدئي، لا نطرح سؤالنا أو أسئلتنا حول ما إذا كانت الكتابة قائمة في علاقة أم قائمة في خارج العلاقة/العلاقات، أي في عزلة. بل نطرح أسئلتنا حول وضعية لهذه العلاقة. وضعية تجعل من الكتابة طرفاً في علاقة طرفها الآخر هو «التحوّلات الاجتماعية». مثل هذه الوضعية تحدد مفهوماً للعلاقة يكشف عن معنى الجدلية الموصوفة بها. إذ ذاك لا يعود مهماً أن نصف هذه العلاقة بالجدلية أو بغيرها من الصفات، لأن كلمة جدلية تصبح مجرد لفظة مضافة، لفظة برانية لا تغيّر شيئاً من طبيعة هذه الجدلية أو من مفهومها الذي تحدده، كما أشرنا، وضعية العلاقة.
وعليه نسأل:
هل الكتابة طرف في علاقة طرفها الآخر هو «التحوّلات الاجتماعية»؟ ذلك أنه إذا كانت الكتابة طرفاً في علاقة طرفها الآخر التحوّلات الاجتماعية، فإنما يعني هذا أحد أمرين:
ـ إما أن يكون لكل طرف فضاؤه الناقص والموقت.
ـ وإما أن يكون لكل طرف فضاؤه المكتمل والنهائي.
وفي كلا الحالين نجد أنفسنا أمام السؤال المستحيل، أو، أمام السؤال العبثي: كيف؟
ففي الحالة الأولى، في حالة وجود فضاء ناقص وموقت لكل طرف، فإن قيام علاقة بين الطرفين يعني قيام فضاء آخر مشترك فيه تمارس هذه العلاقة حركتها، أو، فيه يمارس هذان الفضاءان العلاقة فيما بينهما. وهذا بدوره يحملنا على أن نسأل:
أين ينهض هذا الفضاء المشترك، وكيف نرى إليه، وكيف يمكن لهذا الاجتماعي[14]، أو لهذه التحوّلات التي لها صفة الاجتماعية أن تمارس حركتها في فضاء يتجاوزها، أو يشملها، لتكون فيه في علاقة مع الكتابة، أو مع الإبداع، أو مع الأدب... إلخ؟
أو لنسأل هل يمكن للكتابة أن تتحرك في فضاء ينهض (ولنصفه بالاستقلال والتميّز) خارج التحوّلات الاجتماعية؟ أي نرى إلى هذا الفضاء للكتابة خارج التحولات الاجتماعية؟
وفي الحالة الثانية. في حال وجود فضاء مكتمل ونهائي لكل طرف، فإن هذا يعني انتفاء العلاقة بين الكتابة والتحولات الاجتماعية، أو، بتعبير أدق، تصبح العلاقة بينهما علاقة قطع، وبالتالي، لا يمكن لهذه العلاقة أن تكون علاقة جدلية، فطابع العلاقة صار القطع وليس الجدل.
لنقبل فرضاً الحالة الثانية، إذ ذاك، نجد أنفسنا نسأل: أين تتحرك الكتابة في فضائها النهائي، وأين ينهض فضاؤها هذا في حال وجوده، وهل يمكنه أن ينهض خارج التحولات الاجتماعية؟ وكيف؟
يمكن لمجموعة الأسئلة هذه أن تصل بنا إلى استنتاجين أوليين:
ـ الاستنتاج الأول يحملنا على الاعتقاد باستحالة النظر إلى الكتابة، بل حتى إلى أي نشاط آخر، خارج التحوّلات الاجتماعية.
ـ الاستنتاج الثاني يقوم على الاستنتاج الأول فيحملنا بدوره على القول إنه لا يمكن للكتابة أن تكون طرفاً، كلياً أو غير كلي، في علاقة طرفها الآخر التحوّلات الاجتماعية، لا يمكننا أن نضع الكتابة/الإبداع، ومن حيث هو نشاط منتج، طرفاً في علاقة طرفها الآخر هو الواقع، سواء أوصفنا هذه العلاقة بصفة الجدلية أم بغير ذلك من الصفات، وسواء أقلنا بنقصان في الطرف أم قلنا باكتماله، بكونه موقتاً أم نهائياً، مستقلاً نسبياً أم معزولاً تماماً.
وبشكل أكثر دقة ووضوحاً نقول: لا يمكننا أن نضع التحولات الاجتماعية طرفاً في علاقة مع طرف آخر يقابله، سواء أكان هذا الطرف هو الكتابة أم كان الإبداع، أم كان الأدب، أي سواء أكانت لهذا الطرف صفة المنجز أم كانت له صفة الفاعلية. ليست التحولات الاجتماعية طرفاً في علاقة.
ونحن إذ نقول هذا نلاحظ أن وضع الكتابة في طرف يقابله طرف آخر هو التحولات الاجتماعية، هو وضع له منزلقاته الكاشفة عن نزعتين فكريتين رئيسيتين: الأولى هي نزعة غيبية. والثانية هي نزعة مادية ميكانيكية لا ينقذها من ميكانيكيتها وصف العلاقة، أحياناً بالجدلية.