يقدم هذا الكتاب دراسة لموقع الراوي في السرد الفني المعاصر من خلال قراءات لـ"التيه" لعبد الرحمن منيف، و"رائحة الصابون" لالياس خوري من كتابه "المبتدأ والخبر"، و"ميرامار" لنجيب محفوظ، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح.
أنت هنا
قراءة كتاب الراوي: الموقع والشكل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لا يعود للناس أن يقولوا الأشياء، أشياء عالمهم، كما يشعرون بها، أو كما يحلمون أن تكون من مواقعهم في الواقع المادي الذي يمارسونه عيشاً وحياةً في علاقات. يصير «تعبيرهم» مشروطاً، لا بعلاقة بينهم وبين مرئيِّهم، بل بعلاقة معطّلة بينهم وبين الـ «موقع» الآخر. هكذا تسقط مواقع الناس على تفاوتها، تسقط أسئلتهم، المختلفة، ويسقطون في التعبير الذاهب باتجاه موته، بعد أن تخلّى عن هوية منبته، عنينا عن حواريته، وصراعيّته في نطاق العلاقات الاجتماعيّة القائمة.
لكن، لئن كان الاختلاف بين موقعين هو اختلافهم بالنظر إلى موضوع، فإن ممارسة هذا الاختلاف تنهض على حدِّ قيمةٍ له تاريخيته، أي له حركته التي هي حركة نمو وتقدم. تختلف المواقع فتتصارع لكن على حدِّ قيمة هو في نهاية التحليل توجّه نحو ما هي حياة الناس وحريتهم وفرحهم ضمن وضعية اجتماعية.
إن اختلاف المواقع هو تفاوتها وصراعها، أي هو حركة نقلتها النوعية، التاريخيّة، في التقدم. في هذا الإطار، وفي ضوء حدّ القيمة هذا، أو في ضوء مفهومه، تتحدد المواقع في علاقتها بعضها ببعض.
ليس من شأننا التوسع في هذه المسألة التي تجد مجالها الخاص في بحث مسألة التناقض[11]، وفي تحديد قطبي هذا التناقض في المجتمع، ومن ثم تحديد الحدّ المفهومي للصراع بين هذين القطبين في علاقات تاريخيّة اجتماعية معيّنة. ذلك أن ما يهمنا هنا ليس البحث عن مواقع النظر، أو في المواقع الإيديولوجية، ولا مسألة العلاقات بين هذه المواقع، ولا عملية إنتاج المعرفي للحد المفهومي[12] الذي في ضوئه يمكن تحديد هذه المواقع وعلاقتها التقويمية بموضوعها، ومن ثم معرفة فاعليّتها في تطوير الواقع الاجتماعي. ليس هذا شأننا، فبحثنا ليس بحثاً في الاجتماعي أو الاقتصادي ـ السياسي، بل هو بحث في التعبير والقول ومن ثم في القول الأدبي.
يتكوّن العمل الأدبي خاصّاً ومستقلاً، ونحن إذ نتناوله فيما سيلي من هذه الدراسة، على أساس من هذه الاستقلالية لا نريد أن ننزلق إلى عزلة، كما لا نريد أن نتراجع به إلى حدود ما يسمى بمضمونه.
يستقل العمل الأدبي بتميّزه عما يستقل عنه، ومع هذا التميّز يصبح صعباً، أن نرى إلى هذا الجذر الاجتماعي في حضوره المختلف، أي أن نرى إلى الهوية الاجتماعية في تميزها الأدبي. وعليه فنحن سنحاول أن نرى إلى هذا الاجتماعي في القول، في التعبير الذي يجد منبته في الممارسة النطقية للناس.
يشكّل التعبير، من حيث هو ممارسة نطقيّة اجتماعيّة، مرجعاً حيّاً للعمل الأدبي. فالعمل الأدبي هو عمل مادته اللغة، أو قل: إن الصياغة الأدبية هي صياغة ترتبط بالناس، أي بممارستهم النشطة الفعليّة والماديّة، على أساس من هذا الارتباط يمكن للقول الأدبي أن يكون قولاً للحياة، وإلاّ، سقط في الخواء والتحنط، وفي نوع من الثرثرة اللغوية الجوفاء.
في علاقة مع هذا المنبت التعبيري الاجتماعي الحي المستمر في حركته وتحوّله، تنهض الصياغة الأدبية إلى مستواها الخاص، المستقل والمتميّز، والمتشكل في أنماط من البنى اللغويّة التي تقول، والتي لها أدواتها وتقنياتها ومفاهيمها المتطوِّرة والمتغيّرة أيضاً.
وعليه، فالقول سواء كان قولاً لليومي، أو قولاً مصوغاً في بنية أدبية، هو أساساً ممارسة تعبيريّة، أو هو علاقة ممارسة بين الناس في تفاوت وفي صراع وتناقض، ممارسة على حدّ، إنها تعبير ينطق، يقول الوعي والتصوّر، يقول لفظاً ويقول صمتاً، ويقول فعلاً وتحويلاً إلخ...
يمارس الناس نشاطهم التعبيري من مواقع مختلفة، وإن التقى بعضهم في بعضٍ منها فكانوا أحياناً أصواتاً من موقع واحد.
العمل الأدبي الذي يقول ينهض من موقع نرى إليه في أثره، أي في نمط البنية، في الشكل، في أثره على مسار انتظام التركيب التعبيري، على توالي الجمل، على منطق تمفصل البنيان اللغوي، على أصوات الشخصيّات، في القول الذي يقصّ، وعلى حركة الزمن فيه.
ينفتح الموقع على القول من إيديولوجي اجتماعي، ونحن حين نكشف بقراءتنا للنصّ، عن هذا الموقع، إنما نكشف عن هوية الإيديولوجي المتحكم في بنية النص وفي منطق نهوضه.
ليس الموقع عنصراً مستقلاً في العمل الأدبي، بل هو بوصلته إذا صح التشبيه، ولذا فهو مرئي في أثره، ومقروء فيه، ونحن فيه كأثر نرى الأدبي، أو الفني، من حيث هو قول قائم على المستوى الإيديولوجي في المجتمع، لا في علاقة توازٍ مع مستويات أخرى، بل على حدٍّ صراعي يخترق هذه المستويات ويقيم الفاعليّة فيما بينها.
لا نرى الحضور الاجتماعي في الأدبي من حيث هو مضمون أو إيديولوجيا بمعنى العقيدة أو المذهب، بل نرى إلى هذا الاجتماعي في شكل أدبي يقوله، وكل قول هو إيديولوجي، يحدِّد الموقعُ هويَّته.
على أن هذا لا يمنعنا من أن نلاحظ حقيقة تخص العمل الفني بشكل عام. فالموقع الذي منه ينهض التعبير هو موقع يبقى في العمل الفني خفيّاً، أو هو موقع يحاول الخفاء.
ذلك أن هذا الموقع القائم على المستوى الإيديولوجي في المجتمع، إنما هو قائم على هذ المستوى في حقل ثقافي، وهذا ما يشير إلى مجموعة من العوامل التي تحيط بهذا الموقع، أو التي بها يتحرك باتجاه التعبير والقول. فالحقل الثقافي، ومن حيث هو في وجه منه حقل أدبي، هو حقل واسع وتاريخي، مخترق أيضاً بالصراعي. إنه حقل من النصوص المتميزة والمستقلة، وغير المتماثلة، ولا الملتقية في مواقع قولها. لذا فهي، على استقلاليتها، تتكوّن من أنماط من التعبير، وتتمايز بها وفيها. وهذا يعني أن الموقع الذي به ينهض القول الأدبي هو موقع يتعامل مع ثقافي خاص وينهض مشروطاً بهذا الثقافي الخاص.
يتعامل الموقع مع عناصر قوله الأدبي، وهو إذ ينفتح لا ينفتح باتجاه ذاته، بل باتجاه ما ينهض به.
ينفتح باتجاه التعبير الحي، الوحشي، الخام، وينفتح باتجاه الثقافي.
في اقتصاره على الأول، الوحشي، يتعرض للسقوط في اليومي المبتذل، في العابر.
وفي اقتصاره على الثاني، يتعرض للخواء أو للبلاغي الخاوي.