كتاب " الأسطورة والحقيقة في التاريخ العربي الحديث " ، تأليف د. ذوقان قرقوط ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2005 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الأسطورة والحقيقة في التاريخ العربي الحديث
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الأسطورة والحقيقة في التاريخ العربي الحديث
كان لابد من وقوع الاصطدام بين محمد على والسيد عمر مكرم : ليس فقط لأنهما يمثلان سلطتين متناقضتين ، متعاكستين ، أحدهما يمثل الطموح إلى الحكم والسلطة ، والثانى المدافع عن حقوق الشعب بالثورة ، ولكنه لم يعرف بعد ما يريد منها ولم تتضح معالمها ، إلا أنه يعارض تصرفات وإجراءات الحاكم التى يراها الشعب فى غير صالحه ، ولم يكن جميع ما يسعى إليه محمد على لصالح الشعب . لقد حضر من قونيا تراوده أحلام اعتلاء سدة الحكم . وكانت مصر قبل بونابرت تداعب أحلام الطامحين . فإذا كان العرب لتلاشى العارفين بينهم والواعين للتاريخ فى أوروبا ، كان وعيهم بأهمية مصر يزداد على مر الزمن . لأن الأوروبيين أخذوا بالتقدم ، وكلما تقدموا ازدادت حاجتهم إليها لازدياد ارتباطهم بالثروات الخام والأسواق وراء مصر . كما أن جميع دول أوروبة المتنافسة فى التجارة لم يعد يرضيها اقتصار وجودها فى مصر على محلات تجارية ، ووكالات محدودة فى الثغـــور مهددة دائمًا . وخاصة أن عددًا مــحدودًا من الأوروبيين ، لا يتمتع بحرية التجول إلا بنطاق محدود ، تنبحهم كلاب البلاد أينما رأتهم كما يقول عبد الله النديم .
وصل محمد على إلى مصر بجنسية عثمانية، ولكن بعقل أوروبى، وقد وعى منذ البداية ماذا تعنى الدولة العثمانية بالنسبة إلى أوروبة ، وسيطرتها على مصر بدل المماليك ، وماذا تعنى مصر فى نظر أوروبة ، وماذا تريد أوروبة منها . فقد كتب الضابط بريديه Pridier فى كتابه « عائلة » أن فرنسا أوفدت إلى مصر « ماثيو ليسيبس » عقب خروج الفرنسيين ، لدراسة القوى المتصارعة على الحكم فى مصر ، ولاقتراح الشخصية الجديرة بدعم نفوذ فرنسا . فجاء الاقتراح على شخص محمد على . أما القوى المتصارعة ظاهريًا فكانت إنجلترا ، فرنسا ، الدولة العثمانية ، ولم يكن يحسب أى حساب للعرب أهل البلاد ؛ وجاء فى كتاب بريديه تاريخ أسرة ص 129 :
« كان دولسبس الأداة الأولى لارتقاء محمد على فى مصر ، إذ كانت مهمته البحث فى مصر عن رجل ، قوى الشكيمة ، قادر على ضبط النظام ، بالتغلب على المماليك ، المعارضين للسياسة الفرنسية . فاختار الجنرال محمد على ليرشحه إلى حكومته » .
وهكذا يقرر ، منجن Mengin أول مؤرخ لسيرة محمد على أن قنصل فرنسا العام دروفوتى كان يحرص كل ليلة ، على التسلل إلى مقر محمد على ليطلعه على مجريات الأمور ، ويتداول معه بشأن ما يجب عمله ، وقد أقر فيما بعد الخديوى إسماعيل ، فى منفاه ، هذا الاختيار والدعم اللذين تمتعت بهما أسرته من قبل القوى الأوروبية لارتقائها الحكم فقال :
« أنا من أسرة محمـد على ، ونحن جميعنا نعرف ونقر بدعم فرنســا الذى منحتنا إياه دائمًا» .
هذا ما ورد فى كتاب منجن Mengin أول مؤرخ لمحمد على . لكن هذه الحقائق طمست ولم يعد أحد يتذكرها . وعندما استدعى مؤرخان لبنانيان من الجامعة الأمريكية ببيروت للإشراف على كتابة تاريخ محمد على ، قاما بإسقاط العديد من وثائق تلك المرحلة .
2 - تبرير انحراف محمد على :
ذهب بعض المؤرخين إلى تصوير الصدام بين محمد على وبين « الزعامة الشعبية » الفتية ، على أنه صدام بين مرحلتين فى سياق تاريخ واحد : عهد الفوضى والفقر والضعف وعهد النظام واليسر والقوة . ويحملون مرحلة ما قبل محمد على مجمل مساوئ الحكم العثمانى والمماليك . بينما يضعون مرحلة حكم محمد على فترة من التنظيم والقوة ويتغافلون عن غير ذلك . كأنما الشعب لا يعنيهم ؛ بل رضا السيد هو الأهم . ولما كانت وسيلة هذا السيد إلى عهده الجديد هى توفير المال فإنه لم يستطع توفيره إلا « بضبط الحسابات القديمة ، أو فرض الضرائب الجديدة والاعتداء على الحقوق المكتسبة »(40) . ومن هنا جاء إخلاله بالمواثيق التى أخذها على نفسه واصطدامه بالزعامة الشعبية التى اعتبرت نفسها وصية عليه ورقيبة ، مما دعاه إلى التخلص منها .
بيد أن ما فرضه وما نظَّمه واحتكره لم يكن لإزالة « الفوضى والفقر والضعف » ، بل كان تصميمه فى وضع خطط الكشف والضبط والتحقيق ، وحاجته الشديدة للموارد المالية لمواجهة طلبات الجند الألبانى المستمرة والمتزايدة ، ولشراء تأييد رجال الدولة فى إسطنبول لإبقائه فى منصبه ، وتنفيذ خطته لحل مشكلة الأمراء بحملهم على الاستقرار فى القاهرة والجيزة فى عيش هنئ(41) ، لمراقبتهم . والهدف من هذا كله الحصول على القوة التى تمكنه من القضاء على الزعامة الشعبية ، لأنه ببقائها لا يستطيع تحقيق مطامعه فى الحكم والاستمرار فيه . إن أصوله ليست من أصول الشعب ليهمه الشعب أو يشعر بآلامه . فلا ننسى أنه ألبانى .