كتاب " الأسطورة والحقيقة في التاريخ العربي الحديث " ، تأليف د. ذوقان قرقوط ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2005 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الأسطورة والحقيقة في التاريخ العربي الحديث
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الأسطورة والحقيقة في التاريخ العربي الحديث
ولم يذكر المؤرخون فى تلك السنوات التى مرت على مصر ، من قدوم الحملة الفرنسية إلى هزيمة حملة فريزر . لقد تميزت المرحلة بسمات جديدة فى تاريخ البلاد . منهم من اعتبر هذه السنوات تتمة لما قبلها وما بعدها ، أى أنها جزء من التاريخ العثمانى للمنطقة ، لم يحدث فيه أى تبديل فى العلاقات ، قافزًا فوق كفاح الشعب لمواجهة الفرنسيين والمماليك والعثمانيين والإنجليز، مع إن الكفاح ، فى مثل هذه الحالات ، خير وسيلة للتوعية والشعور بالذات .. ، فالأستاذ شفيق غربال لم يقبل بوجود مؤشرات تدل على احتمال ظهور حكم وطنى يحمل وعودًا كثيرة . وكذلك الأستاذ الدكتور حسين مؤنس ، الذى على الرغم من اعترافه بأن السيد عمر مكرم « كان يقبض على زمام قيادة الشعب ويسيطر عليه تمامًا » ، يرى أنه كان « يسعى للإنقاذ ، ولا يريد أن يكون ملكًا أو أميرًا ، إذ ليس هذا من خلق العلماء ولا حماة الشرع . ولا رجال الدين .. فإذا أرادوا تولية أحد على الناس فعليهم أن يولوا على الناس أصلحهم »(42) . وفى هذا التباس بين الدين المسيحى والدين الإسلامى . فالمسلم لم ينفصل عن الحكم إلا فى أواخر العهود العثمانية - إذا ليس فى الإسلام كهنوتًا . والحكم الإسلامى أصلاً هو العروبة لا فاصل بينهما إلا جنس الحاكم والغرامة . وقد لاحظ الشيخ محمد عبده حينئذ « ظاهرة اتجاه رجال الدين إلى الحكـم » فى أواخر القرن الثامن عشـــر ، فلم يعتبرها مخالفة لطبيعة وظيفتهم فى الحكم الإسلامى . إذ قال « إن العناصر جميعها كانت فى استعداد تام لأن يتكون منها جسم حى واحد يحفظ كونه ويــعرف العالم بمكانته »(43) . وفى قول السيد عمر مكرم عندما انعقد المجلس لاختيار محمد على للولاية « ولابد من تعيين شخص من جنس القوم للولاية » . وهذا ما يشـــير إلى التمايز وإلى أنه لا يعتبرهم من طينة أهل البلاد . ويومئذ كانت الثورة على العثمانيين محتدمة ، إذ يذكر الجبرتى أن حجاج الخضرى ، الذى كان يأتمر بأمر السيد عمر مكرم ويخضع لتوجيهاته هو وجماعته ، كان أحد قادة تلك الثورة . فكان يقاتل العثمانيين وينصب لهم الكمائن ويأخذهم أسرى .. وبينما كانت قنابل درويش باشا تُقذف من القلعة .. كان مندوب السلطان العثمانى يحمــل فرمان تولية محمد على ويدخل القاهرة ، فى حماية رجال حجاج وهو يتقدمهم ، على حصانه ، شاهرًا سيفه(44) .
ذلك أن الشعب من خلال مقاومته للفرنسيين ، ومعاناته لما استجد من ظروف لم يستسغ هذه المواقف ، فبدأ يسترد ثقته بنفسه ، ووضعته انتصاراته على طريق الوعى وبدء إدراك ظروف المرحلة دون أن يؤخذ عليه ذلك المظهر الدينى . فالإسلام وشيجة من وشائج العروبة ، بل أهمها لأنه يرتبط بالعرب باللغة والتاريخ والموقع والمبادئ والأفكار والقيم . ولا شك أن ثقله يزداد إذا رفع راية الوحدة العربية ، وتتلاشى تناقضاته . فأثناء الثورة ضد الفرنسيين أطلق العامة على الراية التى أنزلها السيد عمر مكرم من القلعة - مقر الوالى العثمانى - اسم « بيرق النبى » ، وسارت الجموع وراءه تردد : « نصر الله دين الإسلام » وأطلق عبد الرحمن الجبرتى على كتابه فى تاريخ المرحلة : « مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس » . وبعد سنوات سارت جموع الشعب نفسها ، تحت الراية نفسها لإسقاط الوالى العثمانى ، نائب السلطان ، وهى تصرخ : «يا رب يا متجلِّى أهلك العثمانلى ».. وهكذا فمن الوقوف ضد الفرنسيين والعثمانيين ثم الإنجليز إلى محاولة الوقوف فى وجه خطة محمد على قطع الشعب شوطًا بعيدًا على طريق الوعى « القومى ». ذلك أن الشعور بالقومية لا يكتسب اكتسابًا وإنما « هو موجود فى التاريخ باستمرار ، وقد يشتد فتصبح فعاليته أقوى فى التاريخ .. وقد يضعف فتظهر عليه قوى أخرى ، أشد فعالية .. فيتوارى مؤقتًا لتحل محله روابط أخرى ولكن الشعور القومى يظل فى النفوس ، ويكمن فى ضمائر الأمة »(45) .
كان هذا التفتح فى مصر ضمانة للتقدم والاستمرار فيه للتطوير الإيجابى لوثيقتى 12 و 13 مايو (أيار) وإلى مراقبة دائمة للحكم . بل وإلى حكم شــــورى ، وكما يقـــول مؤرخون آخــرون: « كان من الممكن لتلك الزعامة التى بلغت هذا المستوى من النفوذ فى الشعب والصمودفى وجه المغريات والمناعة الأخلاقية أن تتطور لتحتل مكانها السياسى والاقتصادى لتواجه بنجاح التسلل الأوروبى الاستعمارى فى القرن التاسع عشر »(46) . لكن محمد على تآمر على هذه الزعامة فمزق شملها بشتى الوسائل ، فانفصل بذلك عن الشعب ، وهذا ما جعله بالنتيجة يعجز عن تحقيق أى شىء شبيه بما أنجزه الحكم الإقطاعى فى اليابان - رغم تأخر انفتاح هذا الحكم على الحضارة الحديثة بالنسبة لزمن حكم محمد على واحتكاكه بالغرب بما يقرب من نصف قرن . إن محمد على بتنكره للزعامة الشعبية وابتعاده عن الشعب فقد ظل الخوف من العزل يلازمه ، وبالتالى لم يركن لحظة واحدة للشعب ، بل كان ركونه إلى الفئات الغريبة عن الشعب فى مصر ، فى مرحلة سادت العالم فيها النزعات والنهضات القومية ، مما يسر للغرب احتواءه .
لقد جاء كل ما بناه منفصلاً عن الشعب . كأنه لا علاقة له به . وأول من لاحظ ذلك هو الشيخ محمد عبده ، الذى عاصر ثورة أحمد عرابى فكتب : حقيقة أنه « أرغم الأهالى على الزراعة ، ولكن ليأخذ الغلات. لذلك كانوا يهربون من ملك الأطيان كما يهرب غيرهم من الهواء الأصفر والموت الأحمر . وقوانين الحكومة لذلك العهد تشهد بذلك . يقولون إنه أنشأ المعامل ولكن هل حبب إلى المصريين العمل والصنعة حتى يستبقوا تلك المعامل من أنفسهم .. يقولون أنه أنشأ جيشًا كبيرًا فتح به الممالك ودوخ الملوك ، وأنشأ أسطولاً ضخمًا أثقل به ظهور البحار وافتخرت به مصر على سائر الأمصار، فهل علَّم المصريين حب التجند، وأنشأ فيهم الرغبة فى القلب وحبب إليهم الخدمة فى الجندية، وعلمهم الافتخار بها؟ لا بل علمهم الهروب منها وعلم آباء الشبان وأمهاتهم أن ينوحوا عليهم معتقدين أنهم يساقون إلى الموت »(47) . والملفت أنه لم يُكتب فى «حقيقة حكم محمد على» ، قبل هذه المقالة ولا بعدها إلا بعد ثورة 23 يوليو ، مع العلم أن الوقائع لا تحتاج إلى برهان يكفى فيها العودة إلى الأصول . إلا أن الخوف من سيف الأسرة الحاكمة كان يعقل الألسنة والعقول . وكان لثورة 23 يوليو الفضل بإتاحة الفرصة وكشف الحقيقة التى لم يقرها اليساريون والتقدميون .
ولكن أولئك المؤرخين الذين يتجنون على الحقيقة مراعاة لأسرة محمد على ، لا يستطيعون أن ينكروا أن حظر فرض الضرائب لا يتم إلا بموافقة المشايخ والأعيان كان أحد شروط توليه الولاية . وقد ظل محمد على ملتزمًا برأى المشايخ لا يقطع أمرًا دون مشورتهم ، طالما كان بحاجة إليهم للوقوف فى وجه المماليك والعثمانيين والإنجليز ودعمه لدى السلطان .