كتاب " أشياء لا تموت " ، تأليف محمد عيتاني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب أشياء لا تموت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أشياء لا تموت
ولا يبالي المؤلف أن تبدو هذه الأقاصيص في صورة مذكرات من حياة طفولته أو صباه اليافع. فهو لا يتحرج من قص حكاياته بصيغة المتكلم، ومن وضع نفسه طرفاً في غالبية هذه الفئة من القصص، فيصور نفسه أجيراً يافعاً عند مؤجر بسكلاتات، أو صبياً يدرج في أذيال خالته «جمول» ورفيقاتها نساء المحلة (تحت راية خضرج)، أو فتىً فضولياً باحثاً عن حقائق محلته (رأس بيروت). فالغاية الواضحة من هذه القصص هي تسجيل حقيقة الصورة الهاربة لهذا المتحول المغيّر بصورة مخيفة.
ولكن هذا الأمر لا يعني غلبة طابع الريبورتاج الصحفي على هذه القصص. فهي تزخر بألوان من الانفعالات والصور الفنية واللفتات الطريفة في الغوص على نفسيات الأشخاص وربط هذه النفسيات بالمواقف التي تلعب مصائرها حولها. وهي، خصوصاً، تحمل نكهة لا مثيل لها من عصف اللحم والدم الذي يميّز نبض الحياة الحقيقية، حياة الناس الذين نرى، أو كنا نرى مثلهم كل يوم يضطربون في مجتمعنا، والذين يرسم لنا محمد عيتاني شخصياتهم بكل ما أوتي من دقة ملاحظة وقوة رصد للحركات والأفكار والدوافع الظاهرة والخفية الكامنة وراء سلوكهم، ومن قدرة على التقاط الأمثال والكلمات والصيغ الكلامية والنبرات المميزة لأفراد الطبقات الشعبية التي ينصب عليها اهتمامه. هذه اللوحات الفنية الفريدة المقتطعة بمهارة ومعلمية كبيرة من مقالع حياة شعبنا البسيط، والمتألقة بكل وهج اللغة الحية والأمثال التي تختزن كل حكمته وهمومه، ولكل طرافة العلاقات المتشعبة التي تربط أفراده فيما بينهم والآخرين وأشياء العالم الذي يحيط بهم، هذه اللوحات، على قلتها وصغر حجمها، من شأنها أن تفرد لمحمد عيتاني مكاناً محترماً بين أدبائنا وتجعله أحد القليلين الذين يحملون اليوم راية الواقعية في القصة.
وإن كنا نلمح في قصص محمد عيتاني هذه بعض ملامح النهج الذي شق له ديكنز وبلزاك وجي دوموباسان ومكسيم جوركي وألفونس دوديه، ووجد في الأدب العربي أشكالاً متفاوتة، وعلى فترات متباعدة ذهاباً من الجاحظ وانتهاءً بمارون عبود، فليس في ذلك إلا دليل على ارتباط محمد عيتاني بأجود الينابيع. وهو يشترك مع أكثر من ذكرنا بالقدرة على اكتشاف اللفتة الضاحكة، وأحياناً الرؤية الساخرة في أكثر ما يقع داخل دائرة اهتمامه. وهو يبدو قريباً من جوركي خصوصاً وأحياناً من مارون عبود بنجاحه في لعب دور «الطفل الرهيب» في كثير من الحكايات، وفي تحوير أشد المشاهد حلكةً وزراية إلى مواد فنية باهرة ومؤثرة. وهو، على غرار جوركي، والكثيرين من القصاصين المصريين والعراقيين، لا يخجل من الغوص إلى الدرك البائس الذي كان يتخبط فيه القوم الذين نشأ بينهم ولا من تصوير مشاهد ومشاعر البؤس والجوع والامتهان التي عرفها وعرفوها. وهو لا يصور هذا الجانب القاتم من حياة مجتمعنا، في نيّة تسجيل شيء مضى دون رجعة أو على سبيل إثارة شعور الغضب والنقمة، عند القارئ على وضع اجتماعي معيب. لا، إنه لا يبدو عليه أنه يشعر بأية مرارة إزاء الماضي الذي دمغ طفولته وحداثته بالحرمان. فذكريات هذا الماضي الذي قد يبدو لبعض القُراء حالكاً مثقلاً بالبؤس والشقاء والمتاعب، لا تنفصل أبداً عن مشاعر الحنين في نفس المؤلف لارتباطها دائماً ببعض المباهج والآمال والأحلام التي لا تخلو من الأزهار في حياة فقراء الناس.
والفئة الثالثة من قصص المجموعة تشتمل على محاولات من جانب المؤلف لتصوير سلوك بسطاء الناس الذين تتناولهم قصص الفئة السابقة، ولكن في لحظات نادرة من حياتهم، أتيح لهم فيها أن يتجاوزوا بأفكارهم وأقوالهم، وأحياناً بأعمالهم تفاهة الواقع المزري أو الرتيب الذي يندرج في عمرهم، ليقوموا أو ليفكروا في القيام بالعمل البطولي الفردي أو الجماعي الذي اختارهم القدر لأدائه، وبكلمة هي تتضمن القصص ذات المرمى السياسي والطابع الملتزم.
في هذه الفئة نضع مثلاً: قصة «أوج النشيد» التي تصور حادثة تهريب أحد نزلاء «سجن القلعة» من أبطال الثورة السورية، بمعونة أحد معلمي مدرسة متواضعة في رأس بيروت وتلامذته، ومشاعر صبي صغير كلفه معلمه مرافقة السجين الهارب على الدروب الملتوية في ذلك الحي الشعبي، وقصة «الدقيقة الأولى» التي تروي مواقف بسطاء الناس في حي رأس بيروت من حادثة اعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء من قِبل سلطات الانتداب، أيام الاستقلال، وتعليقات هؤلاء الناس واندفاعاتهم إزاء هذا الحدث الهام في تاريخ الشعب اللبناني واعتزامهم المجازفة بأرواحهم، وهي كل ما يملكون، في سبيل المشاركة في إظهار نقمتهم على عمل السلطات التعسفي، وفي المحاولة لرد الإهانة التي لحقت بالشعب اللبناني.
أما لوحة «سطور للاستقلال» فتشكل محاولة لإبراز حياة محلة «رأس بيروت» في فترة ما بين الحربين ونضال أهل هذه المحلة، بالوسائل المتواضعة التي يملكونها ضد سلطات الانتداب.
ولا يسعني إلا أن أتساءل عما إذا كانت هذه القصص الثلاث، ليست في ذهن المؤلف، غير مشاريع فصول من رواية أكبر يتناول فيها حياة المحلة التي وُلِد ونشأ فيها، وتكوّنت في إطارها كل أحاسيسه ونزعاته ومطامحه. وكأني به يحاول، في هذه النماذج المختلفة من العمل الروائي المتقطع في صورة لوحات قصصية قصيرة، أن يروي، من جوانب متعددة، قصة النضال البطولي الذي كان يقوم به أهالي محلة «رأس بيروت القديمة»، أولاً في معركة الوطن اللبناني ضد المحتل الدخيل، وثانياً في معركتهم الخاصة لكسب العيش ولشق الطريق إلى الأمل والفرح والضوء، في مجتمع لم يقسم لهم فيه غير نصيب الفاقة والكدح اللامجدي.