كتاب " أشياء لا تموت " ، تأليف محمد عيتاني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب أشياء لا تموت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أشياء لا تموت
... وهل هناك أكثر اعتدالاً من قصة «مسح البيوت الخلفية» التي كتبتها حينئذ؟ الحقيقة فكرتها كانت تراودني منذ حين.
سعيد شمام. موظف في وزارة التربية والفنون الجميلة... شاب نشيط ووسيم. يعبد النساء. يحب الكيف والنزهات الملهمة. في الخامسة والثلاثين، لكن زوجته، وهي خريجة إحدى مدارس المحاسبة، تمارس خبرتها في ضبط حسابات راتبه. أحياناً كان ينجح في تهريب عشر ليرات أو عشرين ليرة، أيام المشتريات الهامة. فيشرب كأساً مع امرأة جميلة. للتنويع. لكنه كان ذا حيوية هائلة. كان لا ينام. كان يتسلل من المنزل، تحت جناح الدجى، ويطارد الأخيلة الليلية ساعات. هل وفق مرة؟ مراراً، ولكن كانت فضيحة الزهري، ثم طعنة خنجر في جنبه من بحري مارينز أميركاني بدافع النخوة التي لا يخلو منها إنسان، إلخ.
حتى دقت ساعة الفرح الأكبر في يوم من الأيام. اشترى ورقة يانصيب. وربح. أجل. سعيد شمام الموظف في وزارة التربية، الدرجة السادسة «براتب شهري قدره 300 ليرة» ربح خمسين ألف ليرة دفعة واحدة! الثروة!
أخفى النبأ عن زوجته. وهو يكاد ينفجر. ستقولون: ألا تقرأ زوجته الجرائد؟ أقول لكم، لقد منعته من شراء الجرائد! قبض سعيد شمام الجائزة، وبدأ ينفذ مشروعه الجبار. سوف يمسح السوق العمومي مسحاً. صيد الجاروفة! استلمه من الجنوب من تجاه سينما الأمبير، وأخذ يتغلغل فيه مكتسحاً إياه، بيتاً فبيتاً، وغرفة غرفة حتى أوتيل سلمى الشيخة في الشمال. وكان يقدر أنه سينتهي منه في ربيع عام 1952 إذا استطاع تمشية البطرونات. ودخله يوماً، وفي أحد زواريبه، مساء الجمعة 27/3/1949، تبعه شخص قصير، وهمس في أذنه بلهجة كالدغدغة: شو عايز يا أستاذ؟
ـ أريد ست جميلة. صغيرة. بنت. أريد بنتاً لا تتجاوز العشرين.
ـ عندي مطلوبك يا أستاذ.
وبعد جولة في السيارة على الكورنيش قدمه الوسيط إلى زوجة رئيسه المباشر. فأحاله هذا على مجلس التأديب، ولا تزال قضيته عالقة أمام الجهات المختصة.
وجاءت من الإذاعة الرسالة، التي ظننت أنها نسخة طبق الأصل، عن سابقاتها، لولا أنها تتضمن هذه النبذة:
«الخطأ الفني أنك تقول إن البطل اعتزم مسح السوق لكنه التقى لقاءه الخطير خارج حدود تلك المنطقة. ومن الذي رسم لكم حدود تلك المنطقة؟!!» وفي خاتمة الرسالة، ويا للعجب، كان الرجاء الاعتيادي بإرسال القصص أيضاً، الذي تأكدت معه، والمرء ليس حماراً دائماً، أن جماعة الإذاعة يتلهون بي وبقصصي، وأن الأمر لا يعدو كونه مزاحاً وضحكاً، وتصورت الموظفين، بعد انتهاء أعمالهم المرهقة، يفتحون رسائلي، ويجلسون على جوانب الطاولات، أو على المقاعد الجلدية الوثيرة، يقهقهون وهم يتابعون قصص ذلك الشخص المجنون...
* * *
... لكنني، حباً بالفن، وإخلاصاً للشعب، وطمعاً في الخلود (ولماذا الكذب؟)، توكلت على الله عز وجل، واحتسيت زجاجة من الويسكي، وكتبت لهم قصة أخيرة، وكانت قد حدثت مع جار لنا، في الليلة السابقة.
إنه شخص فاشل. لماذا يفشل المرء؟ لأسباب عديدة. ربما أنه لم يلامس، في الوقت المناسب، قفا سيدة فرنسية، أو لأنه بدلاً من الكتمان والصمت، رسم صورة وجه جميل على الرمال، أو لأنه لا يحسن السير بين المسامير المدنية، أو لأنه يختار المسح بدلاً من الانتقاء، ويعشق الكم بدلاً من الكيف، أقول، إنه شخص فاشل. وكتبت له قصة «التنكة». وهي عن شخص فاشل، بل محظوظ في الفشل. لكنه ارتكب خطأ فظيعاً تلك الليلة. كان متعباً، منهكاً، ناقش كثيراً. لم يقنع أحداً، وظل يكابر. وجه إليهم الاتهامات. فضحكوا. كاد يمد يده إليهم، الجميع خونة، وحده هو الذي يرى نور الحق، فهل سيصبر؟ كلا، بل سيضرب رأسه بالحائط! ووضع رأسه على وسادته. الشارع تهب فيه ريح خفيفة من الغرب. لعل النوم يريحه. تباً لأهل هذه المحلة. أين راديواتهم؟ اعتاد أن ينام على صوت الغناء. ولكن لو ارتفع صوت راديو الآن، فإنه سينهض ويشتم أهل المحلة جميعاً. الريح. الريح فقط تهب قليلاً قليلاً. يريد أن ينام. وأعاد رأسه إلى الوسادة.
وفجأة، تحت النافذة، على طريق الإسفلت، تنكة تتدحرج. صوت تنكة: «قر. قر. قر.». الريح أخذتها إلى الشرق. ربما مسافة مترين، صمتت. ثم عادت. «كرن. كرن. كرن». ووقفت، لعلها استدارت الآن إلى الشمال. وفجأة عادت تسير وحدها على مهل. بدون هواء هذه المرة. على مهل. وتوقفت.
لن تتوقف. ها هي تدور أمام الريح، باتجاه الشرق ولا بدَّ، «كرن. كرن. كرن. كرن.» بنشاط وقوة، استمرت زهاء دقيقة تتدحرج. وهدأ صوتها، ثم عادت... إنه يعطيها كل سمعه المرهف.