أنت هنا

قراءة كتاب أشياء لا تموت

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أشياء لا تموت

أشياء لا تموت

كتاب " أشياء لا تموت " ، تأليف محمد عيتاني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

كانت لها الطاعة من الجميع، وزعيمة النساء في خندق «ديبو» بلا منازع، وها هي الآن تتصدر الخيمة، ولا عجب، فهي في محلتنا التي تجابه البواليص إذا هاجموا النساء لكتابة المحاضر بسبب دلق مياه الغسيل في الزاروب وهي، جمول، التي تفض المنازعات، وتدفع دية الدجاجة التي خبصها البسكلات، وإذا لبطك حمار على بطنك، فهي التي تسقيك «طاسة الرعبة».

ولكزني سعد الدين، وهو يهز رأسه مشيراً إلى الخارج. كنا داخل الخيمة، ولكن غير بعيدين عن المخرج، وكانت جدرانها عبارة عن أكياس من الخيش. وقالت جمول:

ـ بحياتك بالله يا نفوس خدي ها البقاب ودقي عامود الخيمي القبلي شوي. هوا الشمالي راح ينتع الخيمي!

وها هي خالتي أم السبع، ذات الوجه الأسمر الرقيق، والصوت العريض المبحوح لكثرة التدخين، ونظرتها النارية، الحادة، المتخابثة، فهمت، فهمت سريعاً كعادتها، إنني وسعد الدين نريد أن نهرب، أن نخرج من الخيمة، ونسبح على الشاطئ الرملي، وسط هذه الحشود الواسعة من الناس، الصاخبين، اللاعبين، المغنين، الذين لا يعرف لهم رأس من ذنب.

وحدجتني أُم السبع بنظرة مهددة، احمرت لها أذناي، وقالت من خلال النساء والصبيان: هيئتك إنتي وياه ضاربين طبئولا. استرجوا تحركوا!

لم نتحرك، بل رحنا ننظر إلى سائر الصبيان أمامنا. وما كنا نعرفهم. أما سعد الدين فأعرفه ويعرفني. كان جارنا في خندق ديبو وهو زاروب محاط بالصبير والأكواخ في رأس بيروت. وسعد يكبرني بعامين، أو ثلاثة، لكنه أقوى مني جسماً، وجيبه أكثر امتلاء ببزر المشمش والكلل، وأنشط في العدو، وهو الذي قادني عبر الزواريب في العام الماضي إلى مدرسة الشيخ محمد، على ذلك المرتفع بين البساتين. كان رفيقي الدائم، ندرس معاً، ونذهب معاً إلى الجامع، وبحجة مرافقته إلى مقهى والده، على الشاطئ في غرب المحلة كنا نتعرى وننزل إلى بحيرات «براك الحمام» قرب الحمام العسكري، فنستحم طوال بعد الظهر، ثم نعود في المساء. وتلحس خالتي أم السبع وجهي أو شعري وتقول: رحت عالبحر يا ديوس؟ وتصفعني بدون اقتناع شديد، لكني أقضي ذلك المساء بطوله تحت وطأة عبوسها الفرانكشتايني.

ـ 2 ـ

والآن نحن في خيمة «أربعاء أيوب» مع خالتي جمول، وأُم السبع، والجارات، وأولادهن وما كنا نعرف هؤلاء جيداً.

كانت صحون المفتقة الصفراء الداكنة مصفوفة في زاوية الخيمة حيث لا يجلس أحد، وقربها طناجر الطعام، والطباخ الفخار، ونرجيلة الحاجة جمول، في فترة راحة، و«مشايات» النسوان، السوداء اللماعة، وهي، أي المشايات، شغل البلعة وبعض ملاءاتهن ملقاة هنا في الزاوية كيفما اتفق، إذ تفضل خالتي وجارتها الجلوس أثناء النزهات بالفسطان، وإبراز صدورهن كأكياس اللبنة، وبعضها عند البنات مكوز كالرمان في أول أوانه. ولا يبدأ الكشف عن الزنود البيضاء إلا بعد التأكد من عدم وجود شقوق في الخيمة، والتثبت من أعمار الصبيان الحاضرين. وفجأة وصل حجر من الخارج، فارتج على جدران الخيمة، أو لعلها حفنة رمل، والأكثر أنها مرفق غلام دفعه غلام آخر، أو رجل «مشورب» ثقيل الدم يريد المزاح مع النسوة رغم ما في المسألة من أخطار: «والله بخلي أبو حسن الآغا يطيرك بأرض بسما!» كانت إحدى العبارات الحاسمة التي تهوي بها جململ ـ وهكذا يناديها زوجها البحار أثناء المشاجرات حين يصبح أبو حسن كديك الحبش، وجململ خطرة كمحدلة لتكسير البحص تعطلت فراملها في منحدر شديد الخطر.

وجململ تنطلق مهددة متوعدة، مندفعة بثقلها الطوني مثل الترام في نزلة الباشورة.

وصرخت جمول: وليه عاقامتهم! وئي مين هيدا؟!

ثم هدأت حدتها حين هدأت ارتجاجات الخيمة من الداخل، وجلسنا أنا وسعد الدين جامدين، مكرهين، وكانت تفوح من الخارج، في الجو رائحة اللوز الأخضر، ودخان النارجيلات، وروائح البحر المسكرة، وصوت الأمواج المنطرحة على الرمال، ثم تنتشر مبددة زبداً أبيض وأصدافاً بنفسجية وقطعاً صغيرة من الأخشاب والعلب الفارغة.

ـ عبكرة وصلنا الآغا بالشختورة لهون أني وولاد سلفتي أم معروف، وما كان فيه إلا الله وهالرملات عا مدة عينك والنظر.

أجابتها الست أم علي الحلوة، السمينة الملتفة بملاءتها الكحلية الرقيقة، المرأة الحمراء الخدين ذات العينين الواسعتين المرسومتين رسماً واللتين تتحرك فيهما حدقتان كرويتان بلون دبس الخروب.

ـ بش.. بحياة النبي؟!

ـ أي والله! وشي وصلنا كانت الدنيا وش الصبح، حطيت الولاد بالخيمة، حتى لا يبردوا، ونزلت تغسلت بالبحر ونويت الوضوء، وتمددت بالظلط عالرملات، وبعدين ركعت ودعيت لربي.. وسألتها أم السبع باسمة: ما صرتي تقولي الله يبعتك يا أبو حسن حتى تصلوا الصبح جماعة؟

وضحكت النساء واستغربنا أنا وسعد الدين هذه اللغة السرية. وقالت «عيشي الجارة»: ـ الله يتقبل منك يا حاجة جمول.. ـ الله يحفظك! ـ الله يغفر لنا ذنوبنا! ـ آمين.

الصفحات