كتاب " أشياء لا تموت " ، تأليف محمد عيتاني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب أشياء لا تموت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أشياء لا تموت
وأنا أعلم أن هذه الفكرة تراود مخيلة محمد عيتاني منذ أكثر من خمسة عشر عاماً. وفي اعتقادي أن تحقيق هذه الفكرة على صورة رواية واحدة تدمج كل هذه اللوحات وهذه الجوانب المختلفة في حركة واحدة ومناخ واحد كان أقرب إلى المنطق. ومن شأنه أن يفسح مجالاً أرحب للتصرف والإبداع في الحبك والبناء والنسج بين الأجزاء المتباعدة من المادة الفنية.
ولو تحقق إدماج هذه اللوحات واللفتات واللقطات المتناثرة في تيار واحد من الأحداث لاكتسب كل منها حياة ومعاني وأبعاداً أعمق وأغنى بكثير مما تحمله اليوم.
وما أحب إلا أن المؤلف أراد أن يقوم بمحاولته هذه على سبيل التجربة في النطاق الضيق، اليسير التناول والإخراج، المتوافر في القصة القصيرة.
ولا أحسب أن الوقت قد فات على المؤلف ليحقق أمنيته. فإن له من الجلادة في القص ومن رهافة الحس ودقة الملاحظة والقدرة على رسم الأشخاص القصصية وعلى مهرهم بالملامح والسمات والنفسيات واللغة المثيرة ما يؤهله للعمل الروائي أو القصصي الطويل النفس. وقصتا «الحجر» و«الجياد الغاربة» تعطياننا فكرة عن مدى ما يستطيعه محمد عيتاني في هذا المضمار.
وإن كنت أطرح القضية على هذا الوجه الذي قد يبدو للبعض نوعاً من التهرب من الواقع إلى دنيا التمني، فلأنني أحب أن أنتهز هذه المناسبة لأعلن اعتقادي أنه قد حان الوقت لأن ينتقل، حملة الأقلام عندنا، من ميدان القصة القصيرة، الذي تركزت عليه، حتى الآن، غالبية إنتاجنا القصصي، إلى ميدان البناء الروائي الرحب، الذي لم يحظ، حتى الآن، إلا بالقليل جداً من عنايتهم. فإن إطار القصة القصيرة يؤدي حكماً، وبمجرد ضيق مجاله والمدى الزمني والمادي المحدود جداً الذي يتيحه للكاتب، إلى مثل ما تؤدي إليه قوالب الأحذية الصلدة التي كان الصينيون يغلفون بها أقدام بناتهم في عمرهن الباكر. إنه يؤدي إذن إلى ضمور الحياة التي يحاول القصصي رسمها، وأحياناً إلى تشويهها ومسخها لفرط عمليات التقطيع والاجتزاء والاختزال التي يضطره إليها التزامه بحشر العالم الرحب، البالغ التعقيد والتشعب في أقل ما يمكن من حيّز الزمان والمكان، وإن التجربة علمتنا أن من المتعذّر إلقاء الأضواء على الأشياء والأحداث وتفسير العلاقات بين الجوانب البالغة التنوع في حياة المجتمع، بما يكفي من القوة والفعالية والقدرة على هز خيال القارئ، في مجال القصة القصيرة. والآثار الوحيدة التي استطاعت أن تحدث في الحياة الأدبية بل في حياة مجتمعاتها الأثر المزلزل والفاعل والمحول، هي الروايات والقصص الطويلة، إلى جانب الآثار المسرحية. ففي مثل هذه الآثار استطاع بعض الأفذاذ من الأدباء أن يعطوا عن العالم والناس والأحداث رؤية على جانب كافٍ من الوضوح والوعي والرحابة والطرافة، بحيث استطاع القُراء أن يجدوا فيها إما بديلاً عن العالم الواقعي، وإما حافزاً لضرورات تبديله أو تطويره. ولا أحسب أن ثمة أديباً مسؤولاً عن إعطاء مثل هذه الحوافز لتبديل العالم أو لتطويره أكثر من الأديب التقدمي. فهو، قبل غيره، يحمل تبعة هداية القُراء إلى المعاني الخفية التي تكمن وراء الأشياء والأحداث، وإلى الحقائق الجوهرية التي ترسو في خلفية الصور المتغيرة. ولا أعتقد أن مجال القصة القصيرة، الضيق حكماً، يتسع للعب مثل هذا الدور.
وما دمت في معرض التمنيات، فبودي أن أتوجه إلى مؤلف هذه القصص بتوصية أخيرة. إنني أتمنى عليه أن يعيد قراءة قصتي «الجياد الغاربة» و«الثلاثية الطبية» ليحذف منهما بعض الفقرات أو الملاحظات التي قد تكون لها بعض القيمة أو الأساس في الواقع اليومي، أو على الأقل في ذهن المؤلف، ولكنها تخلو من أية قيمة فنية في الإطار القصصي الذي وضعت فيه. فإيراده، في جملة الذكريات التي ازدحمت في مخيلة الإقطاعي الصغير المتحضر في قصة «الجياد الغاربة»، ذكرى اشتراكه في نشاط حزب سياسي معيّن أثناء حوادث معيّنة، مع إضافة نعت «مجرم» لوصف هذا الحزب، قد يرضي المعتقد السياسي عند المؤلف، وشطراً محسوساً من الرأي العام، ولكنه لا يغني القصة بشيء، إذ إنه لا يؤثر بشيء في مجرى الأحداث التي يحاول تصويرها، من خلال الوقائع الذهنية المحتدمة المتحركة في نفس بطله. وإن كشف المؤلف عن رأيه الشخصي حول أحد الأحزاب الذي يسميه باسمه الفعلي، في معرض الإشارة إلى أحداث وقعت فعلاً، ودون أن يكلف نفسه عناء حمل القارئ على أن يشاركه في رأيه استناداً إلى وقائع من صلب القصة، لا يؤدي إلا إلى نقل القارئ من جو القصة الذي هو من خلف المؤلف، وله فيه السلطان المطلق في التحكم في عواطف ومشاعر وأفكار قُرائه، إلى ميدان الواقع، حيث تنقطع كل صلة بين المؤلف وقُرائه، إذ يعود كل قارئ إلى قواعده الفكرية ويخرج بالتالي عن حكم المؤلف، وعن سلطة الأجواء من الأفكار والحساسية التي يهدف كل عمل فني إلى بنائها.