كتاب " مقدمة في نظرية الأدب " ، تأليف عبد المنعم تليمة ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مقدمة في نظرية الأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

مقدمة في نظرية الأدب
الأسطورة واقع
كان الإنسان أوّل حياته على الأرض كائنا طبيعيا، ولقد بدأ خطواته نحو أن يكون كائنا إنسانيا عندما أخذ يحوِّل الطبيعة ـ عن طريق العمل ـ للوفاء بحاجاته. لقد كانت الطبيعة تحدد حاجات ذلك الكائن الأول، وكانت تفرضها عليه. لكنه أخذ بالتدريج يتميز عن الطبيعة وينفصل عنها ويحدد حاجاته ويفرضها على الطبيعة التي صارت ـ بالعمل الهادف ـ خادما للإنسان، وبتعبير آخر فإن ظهور الإنسان على الأرض كان في طوْر متأخر من أطوار تطور الطبيعة. وظل ذلك الإنسان زمنًا طويلًا وهو كائن طبيعي يتطور (من) الطبيعة. ولكنه أخذ بعد ذلك يتحول ـ بعمله ـ إلى أن يكون كائنا إنسانيا يتطور (ضد) الطبيعة. وكان معنى التطور العملي الإنتاجي في تاريخ ذلك الإنسان القديم، أنه يحل طبيعته (الإنسانية) محل طبيعته (الطبيعية).
وفي الحق أن هذه الطبيعة الإنسانية التي تطور إليها الإنسان القديم ـ في تميزه عن الحيوان وانفصاله عن الطبيعة ـ ليست سوى طبيعة (اجتماعية) في المقام الأول: إذ لم يستطع الإنسان القديم أن يواجه الطبيعة فردًا، بل واجهها جماعة. ولم يستطع أن يعي نفسه إلا خلال وعيه بعلاقاته الجماعية(11). وظهر في هذا الصدد أن هناك فروقًا جوهرية بين مخ الإنسان القديم الذي كان لا يزال (في) الطبيعة واحدًا من كائنات المملكة الحيوانية، ومخ الإنسان العاقل(12) الذي أخذ يواجه الطبيعة ويسمو عليها. وأهمية هذه الفروق في أنها تشير إلى أن مخ الإنسان العاقل يتميز باتصاله بالعمل الواعي المرتبط بنشاط اجتماعي. لذلك كان الإنسان القديم يلبي حاجات عيشه بالتكيف الحيواني مع الطبيعة، بينما أخذ الإنسان العاقل يلبي تلك الحاجات بمواجهة الطبيعة بالعمل الجمعي. ولهذا الأمر دلالته المهمة، إذ إنه يعني أولًا أن العوامل العضوية ـ منذ ظهور الإنسان العاقل ـ قد أصبحت أقل شأنا في تطور الإنسان من العوامل الاجتماعية. كما أنه يعني ثانيًا الرد على بعض أصحاب علم الاجتماع الأنثروبولوجي الذين لم يستطيعوا الكشف عن الطبيعة الاجتماعية للإنسان وركزوا على تطور الإنسان منفصلًا عن تطور العمل الاجتماعي وخبرة الجماعة، والرد على أصحاب التفسير البيولوجي الذين ركزوا ـ في دراسة تطور الإنسان ـ على العوامل العضوية(13).
ويمكن القول هنا إن الإنسان حقق (إنسانيته) عندما تميز عن الحيوان، بأن عرف كيف يصنع أدوات عمله، وأنه حقق (اجتماعيته) في ذات الوقت لأن العمل عملية اجتماعية، بفضلها قامت المجتمعات الإنسانية.
وفي المجتمع البدائي لم يكن الإنتاج جمعيًا فحسب، بل كان التوزيع جمعيًا كذلك، إذ كان لا يمكن قيام الملكية الفردية لا لوسائل الإنتاج ولا لمنتجات العمل، سواء في ذلك مرحلة الجمع والصيد ومرحلة الزراعة البدائية في العصر الحجري الحديث (من نحو 5000 قبل الميلاد إلى نحو 3000 قبل الميلاد). ويقول الاقتصاديون إن علاقات الإنتاج في تلك المجتمعات البدائية كانت متطابقة مع طابع القوى الإنتاجية فيها، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى المشاعية ويُحول دون الملكية الفردية. فإذا كانت ملابسات العمل الاجتماعي وظروفه قد تطورت بالإنسان إلى تركيب اجتماعي محدد هو (المجتمع البدائي) القائم على بنية جماعية. فإن تلك الملابسات والظروف نفسها قد أدت إلى علاقة بين الإنسان البدائي وعالمه تقوم على نظرة (كلية) يرى فيها ذلك الإنسان عالمه على أنه كل واحد بأشيائه وحيوانه وإنسانه. أي أن بنية الجماعة البدائية كانت تقوم على أساس العلاقة (الجماعية) بين أفرادها، وأن هذه الجماعية في البنية الاجتماعية كانت تتوازى مع (كلية) في نظرة تلك الجماعة إلى عالمها الطبيعي وعلاقتها به. وأن هذه الكلية كانت تنتظم البشر والأشياء والكائنات الحية والظواهر. وفي هذا ما يفصح عن أن الإنسان البدائي كان لا يزال غير مفارق تماما للعالم الطبيعي، وأنه كان لا يزال ـ في بعض حاجات عيشه ـ (عالة) على ذلك العالم. وترجع تلك البنية في المجتمع البدائي وتلك النظرة في علاقة ذلك المجتمع بالعالم إلى تخلف أدوات العمل وبدائيتها وقصور الخبرة (التكنيكية) عند البدائيين ونقصها(14). لكن الإنسان لم يستسلم لتلك الضروب من التخلف والقصور والنقص، بل لقد تخطى كل ذلك بأداة فذة خلق بها عالمًا جديدًا. ولم يكن هذا العالم المخلوق (وهمًا) وإنما كان (هدفًا) عجزت أدوات الإنسان وخبرته العملية عن خلقه. وكانت تلك الأداة الفذة في يد الإنسان البدائي هي الأسطورة. فإذا كان العمل الإنساني إنما ينهض على الهدف الواعي، وإذا كانت أدوات الإنسان وخبرته تقصران عن تحقيق بعض أهدافه، فإن الأسطورة ـ وهي تنجز بالوسائل السحرية والرمزية هذه الأهداف ـ ليست بعيدة عن العمل نفسه، بل إن الأسطورة تصبح على مستوى العمل بالفعل عندما لا تنجز هدفا يعجز عن تحقيقه القصور التكنيكي والاجتماعي والمعرفي فحسب. وإنما عندما تصوغ وجودًا أكثر اكتمالا وجوهرية. فهي هنا (خطة) عمل أمام الإنسان وحافز له على إنجاز ذلك الوجود المكتمل الجوهري (15)
إن الطقوس السحرية عند العشائر الطوْطمية والمجتمعات البدائية عامة لم تبعد عن التكنيك البدائي والممارسات العملية في حياة تلك المجتمعات، كذلك كانت (المعرفة) التي أتاحتها الأسطورة للإنسان البدائي أصلا لكل معارف البشرية بعد ذلك،. لقد كانت الأسطورة نبعا للعلم والفلسفة والدين والفن. ونستطيع أن نقول إن الإنسان بعد أن نمت قدراته على تجريد تجريبه العملي وخبرته وتعميمها قد أصبح في إمكانه أن يفكر بالمفاهيم والرموز، ومن ثم أصبح في إمكانه أن يصوغ (صورة) لعالم أكثر تطورًا وكمالًا من عالمه الفعلي، وقد أصبح في إمكانه ـ في لحظة تالية من تطوره وارتقاء أدواته وعلاقاته ـ أن يجعل هذه الصورة الرمزية الأسطورية عملًا فنيًا؛ أي واقعًا حقيقيًا. من هنا كانت الأسطورة عند الإنسان البدائي خطة عمل لمستقبل قابل للتحقيق.