أنت هنا

قراءة كتاب مقدمة في نظرية الأدب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مقدمة في نظرية الأدب

مقدمة في نظرية الأدب

كتاب " مقدمة في نظرية الأدب " ، تأليف عبد المنعم تليمة ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
3
Average: 3 (1 vote)
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 10

لا شك أنه كان يمدهم بقوة، ويوحي إليهم بثقة ويقرب أملهم في السيطرة على عالمهم، ولا شك أيضًا أن كل ذلك كان يرتد إلى واقعهم العملي فيحكم سيطرتهم عليه، ويفسّر لهم ـ نسبيًا ـ ظواهره.

والمسألة الثانية ـ وهي لا تنفصل عن المسألة الأولى وإنما فصلنا بينهما بغرض الإيضاح فحسب ـ هي أن الجماليات كانت ممارسات عملية، وأن هذه الممارسات العملية كانت ظواهر جماعية، إذ إن الفن البدائي جمعي، ما دام العمل الإنتاجي في المجتمعات البدائية جمعيًا.

وما دام الفن في تلك المجتمعات عملا على مستوى العمل الإنتاجي بالفعل. وما دمنا بصدد الأسطورة، فإننا نذكر ما سبق أن قررناه وهو أن الفن البدائي إنما يعكس علاقة أسطورية تقيم عالمًا يعكس بدوره البنية الجماعية للمجتمع البدائي. وعلى الرغم من أن النظرة السحرية الأسطورية كانت تجعل الجماعة الإنسانية في وحدة (حيوية) مع عالمها الطبيعي، فإن هذه الجماعة ـ بتطورها العملي الاجتماعي ـ أخذت تتميز عن عالم الطبيعة وتنفصل عنه وتعمل متماسكة ضده. وبسبب بدائية وسائل العمل وظروفه، وبدائية العلاقات الاجتماعية، فإن عملية العمل كانت جماعية كما سبق. وفي مثل هذا النمط الاجتماعي ـ المجتمع البدائي ـ لا تتميز (شخصية الفرد) ولا تظهر (الطبقات). ولما كان الفن عند البدائيين عملا لا يبعد عن العمل الإنتاجي لديهم، فإن ذلك الفن البدائي كان جمعيًا كعملية العمل الإنتاجي تماما حتى لو أنتج بعض إبداعاته آحاد من الفنانين.

إن الفن البدائي لم يكن فنًا (فرديًا) كما لم يكن فنًا (طبقيًا). لم يكن فنًا فرديًا لأنه على مستوى العمل الإنتاجي وهو عملية اجتماعية. ولم يكن فنًا طبقيًا لأن ذلك النمط الاجتماعي ـ المجتمع البدائي ـ لم يعرف الطبقات. وقد ظهر في ذلك المجتمع نوع من الاحتراف في ميدان الفن، فتميزت جماعة من الفنانين السحرة وأعفتها الجماعة من مشقة العمل الإنتاجي، فكان الفنان الساحر ـ كما يقول أرنولد هاوزر(23) ـ أول مثل للتخصص وتقسيم العمل. على أن الجماعة لم تنظر إلى أولئك الفنانين السحرة المحترفين على أنهم يعيشون على فائض إنتاج غيرهم، بل نظرت إلى فنهم السحري على أنه عمل إنتاجي حقيقي: «وفي الواقع أن هذا الفن السحري كان مهما في نظر مجتمع نهاية العصر الحجري القديم حتى إن السحرة الرسامين ربما كانوا يعفون من واجبات الصيد المرهقة ليتفرغوا للطقوس المعروف عنها أنها أكثر إنتاجًا. فكان يُخصص لهم غالبًا قسم مما يأتي به الصيد لقاء اشتراك روحي في محنِه وأخطاره. وأقل ما يمكن قوله هو إن الرسوم كانت متقنة إلى حد يستدل منه على أنها من عمل صنَّاع مدربين ومختصين».

وهكذا نكاد نتبين ظهور أول الإخصائيين، أي أول من يعيش على فائض اجتماعي من الأغذية بدون أن يسهموا مباشرة في جمعه. على أنه من المؤكد أن المنتجين لم يعتبروا فضل هؤلاء الإخصائيين السحري أقل أهمية من براعة مطاردة الحيوانات ودقة الرامي وشجاعة الصياد(24). لقد كان الفن البدائي إذن فنًا (إنسانيًا)، فن بشر لم يتميز فيهم الفرد ولم تتميز فيهم الطبقة لأنهم جميعا بنشاطهم ـ العمل والفن ـ كانوا في طوْر التميز عن الطبيعة ومفارقتها. كان هذا الفن البدائي واحدة من وسائل (القوة البشرية) في مواجهتها (للقوة الطبيعية) وفي تميزها عنها وسموّها عليها. كما كان ذلك الفن تعزيزًا لتماسك الجماعة ودعمًا لوحدتها. وعند علماء آثار ما قبل التاريخ ومؤرخي الفن شواهد جمة لهذه الحقيقة الأولية ـ السمة الجماعية ـ في الفن البدائي.

ولسنا هنا بحيث نفصل القول في تلك الشواهد، فلها مظانها، لكن حسبنا في هذه السبيل أن هؤلاء العلماء والمؤرخين يرون: أن خروج الجماعة إلى الصيد ـ خاصة في مرحلة جمع المآكل ـ وأن خروجها إلى الحصاد ـ خاصة في مرحلة إنتاج المآكل ـ لم يكن ليتم أغراضه لولا أن الجماعة الإنسانية قد اكتشفت ـ بطول ممارسة وملاحظة ـ موازاة رمزية لجهدها العملي. ورأت الجماعة أن هذه الموازاة الرمزية توحِّد أفرادها وتقلل من تعبها تقرب من تحقيق هدفها. كانت هذه الموازاة الرمزية هي الممارسات الفنية المصاحبة للعمل. ولقد أدت هذه الممارسات الفنية ـ وهي جزء من العمل ـ إلى التحام حركة الفرد بحركة زميله فكانت قوة إنجاز عملي. لذلك كانت أغنيات البدائيين (نداءات عمل)، وكان إيقاعهم (تنظيما) لحركات الأداء العملي. وكذلك أيضا كان كثير من حركات الرقص والتمثيل الجماعي (تدريبًا) فعليًا لحركات لازمة في العمل الإنتاجي وتقليدا يحاكي مقدمًا الرغبات التي يرجوها البدائيون قبل قيامهم بالصيد أو الحصاد أو الحرب. كما يحاكي مقدمًا الأخطار التي يتوقعونها. وعندهم ـ كما سبق ـ أن رقْص تلك الرغبات وتمثيلها يحققها، وأن محاكاة تلك الأخطار وتمثيلها يبطل آثارها. وفي طوْر من أطوار التاريخ الفني البدائي استخدمت الجماعة الصورة علامة وإشارة، أي لغة إعلام لأغراض عملية خالصة، كما استخدمت التزيين ـ الوشم مثلا ـ باعتباره (أوسمة) تمنحها للمهرة والمتفوقين من أبنائها في مجالات العمل.

كانت اللّغة في كل تلك الموازاة الرمزية ـ الممارسات الفنية ـ تقوم بدور أساسي. إذ إن التعبير كان ـ كالتصوير والتشكيل والتمثيل ـ قوة سحرية يصطنعها الإنسان للسيطرة على عالمه حسب ما صوّر له المنطق الأسطوري في ذلك الطور البدائي من تطور المجتمعات البشرية. كان ذلك المنطق الأسطوري (فكرا) يحققه الإنسان البدائي عن طريق (عمل) هو الممارسة السحرية. وكانت هذه الممارسة تتبدى في (قوة) الكلمة. ولكن (تأثير) قوة الكلمة قد فاق تأثير التصوير والتشكيل والتمثيل. وذلك إنما يرتد إلى طبيعة اللّغة ـ كما رأينا في فصل (التجريب والتجريد) في هذا الباب ـ باعتبارها أهم أدوات الإنسان في علاقته بعالمه الطبيعي والاجتماعي.

ومن الوجهة الأولى

ـ أي العلاقة بالعالم الطبيعي ـ كان البدائي يؤمن بتأثير الكلمة على القوى الظاهرة والخفية في هذا العالم. فقد كان المنطق الأسطوري لدى البدائي يصور له إمكانية (التعامل) مع القوى الكونية التي تعي وتستجيب حسب ذلك المنطق. وكانت الممارسات السحرية أدوات للبدائي في تعامله مع تلك القوى وفي توجيهها لصالحه. ولقد احتلت الكلمة مكانًا بارزًا في تلك الممارسات السحرية باعتبارها قوة مؤثرة في التعامل مع القوى الكونية. وتوجه البدائي ـ مصطنعًا التأثير السحري للكلمة ـ إلى هذه القوى بالضراعة والرجاء وبالأمر والنداء... إلخ.

كذلك كانت الكلمة قوة في علاقة البدائي بعالمه من قبيل آخر، وهو أن الكلمة كانت أداة للتحكم في جزئيات هذا العالم وظواهره، كما كانت أداة لمعرفة هذه الجزئيات والظواهر. فقد كانت الكلمة تساوي لدى البدائي الشيء الذي أطلقت عليه تسمية له، ومن ثم فإن تسمية الأشياء كانت تعني ـ سحريًا ـ التحكم في هذه الأشياء ومعرفتها والسيطرة عليها.

الصفحات