كتاب " مقدمة في نظرية الأدب " ، تأليف عبد المنعم تليمة ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مقدمة في نظرية الأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

مقدمة في نظرية الأدب
إن نظرة الإنسان البدائي إلى العالم سحرية أسطورية ـ لنقل علاقته الأسطورية بعالمه ـ قد ارتبطت أولًا بدرجة معينة من تطور أدوات العمل والخبرة التكنيكية وهي الدرجة التي وصلت إليها المجتمعات البدائية. وقد ارتبطت ثانيًا بتركيب للبنية الاجتماعية ترتب على تلك الدرجة من تطور أدوات العمل والخبرة التكنيكية في المجتمع البدائي: ومن الوجهة الأولى رأينا أن البدائي قد اكتسب ثقة بنفسه عندما صنع أدوات عمله فاستطاع أن يطوِّع الطبيعة وأن يجعلها تخدم مطالب عيشه ووجوده، وبسبب قصور تلك الأدوات وتخلفها ظلت جوانب كثيرة من واقع البدائي غير خاضعة لسيطرته. كذلك رأينا أن فكر البدائيين قد كان تجريدًا ذهنيًا لخبرتهم العملية، وأن ذلك الفكر قد وصل إلى مفاهيم مجردة ملائمة للجوانب التي سيطر عليها البدائيون في واقعهم ومفسّرة لها. لكن ذلك الفكر استخدم المفاهيم المجردة في إقامة علاقات ذهنية بين الأشياء المتشابهة، واعتقد البدائيون أن العلاقة التي تنشأ في الذهن جامعة بين شيئين أو موضوعين هي علاقة حقيقية قائمة في الواقع، ومن ثم اعتقدوا ـ تأسيسا على هذه الفكرة ـ أنهم لو صنعوا نموذجًا لشيء فإن ما يقع على هذا النموذج يقع على الشيء ذاته في عالم الواقع. أي أن البدائيين أرادوا إخضاع ما لم يخضع لهم في عالمهم معتمدين على علاقات ذهنية، وعلى المماثلة والتشابه بين الأشياء، ومن هنا آمنوا بإمكان السيطرة على جوانب الواقع التي لم يسيطروا عليها بعد بمجرد إنشاء مثال (ذهني) لهذه السيطرة غير أن هذا المثال الذهني لم ينفصل عند البدائي عن خبرته العملية، وعن وحي حياته اليومية: فقد أدرك أنه ما دامت الأشياء والموجودات لا تخضع له إلا بالعمل، فإن المثال الذهني الذي خلقه لإخضاع ما لم يخضع بالعمل ـ لتخلف الأدوات والخبرة التكنيكية ـ كما سلف ـ لا يتحقق أيضا إلا بعمل، وكان هذا العمل هو الطقس السحري، الذي كان ـ عند البدائي ـ عملًا على مستوى العمل الإنتاجي الفعلي، بل إنه كان قائمًا في كثير من خطوات تنفيذه على أدوات العمل الإنتاجي والخبرة العملية البدائية عامة.
الطقوس السحرية إذن ـ في الطوْر البدائي من التطور البشري ـ أساليب عمل غرضها السيطرة على الجوانب التي تخلفت أدوات العمل الفعلية عن السيطرة عليها(16): إذ يمكن ـ في منطق البدائيين ـ السيطرة على تلك الجوانب بإغراء الطبيعة أو باسترضائها أو بخداعها أو بتقليدها أو بغير ذلك مما عرفته الطقوس السحرية. وفي العصر الحجري القديم(17) ـ مرحلة (جمع المآكل) كما يسميها جوردون تشايلد(18) ـ أراد الإنسان كبح جماح الطبيعة، واتقاء أخطارها بطقوس خاصة استرضاها بها، وسعى إلى استنزال المطر ووفرة الصيد بطقوس أخرى، كما سعى إلى نقل دور المرأة في الحمل والولادة إلى الحيوانات بحثِّها على التناسل والتكاثر، وإلى النباتات بحثِّها على النمو والزيادة وذلك عن طريق طقوس سحرية ثالثة... إلخ.
وفي العصر الحجري ـ الحديث ـ مرحلة (إنتاج المآكل) ـ كما يسميها المؤرخ نفسه ـ اتسع انفصال الإنسان عن الطبيعة باتساع إنتاجه لطعامه وباتساع مصادر هذا الإنتاج، فقل اعتماده ـ نسبيا ـ على الطبيعة التي أصبح فاعلا فيها بعد أن كان عالة عليها. وفي هذا العصر نشأت الزراعة البدائية واستأنس الإنسان كثيرا من الحيوانات وتطورت الطقوس السحرية لترتبط بهذه الأوضاع العملية الجديدة، فبرزت طقوس (الخصوبة) التي تجعل الاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة ينتج مثيله، أي ينتج خصوبة في المحاصيل ويؤدي إلى كثرتها. كذلك برزت في ذلك العصر الاحتفالات الطقوسية المرتبطة بالحصاد وبغيره مما يتصل بالحياة المعيشية والعملية للجماعات البدائية. كما تطورت طقوس سحرية أخرى كانت قد نشأت في العصر الحجري القديم خاصة تلك الطقوس المتصلة بلغزي الميلاد والموت. وعلى هذا فإن الطقوس السحرية عند البدائيين كانت ذات أغراض عملية. أي أن الطقس السحري كان عملا، كان (تكنيكا)، كما كان الصانع والساحر في إهاب واحد، إذ كان غرض النشاط العملي والممارسة السحرية واحدًا وهو إخضاع العالم للإنسان «وقد أتى على الإنسان حين من الدهر اجتمع لكل فرد فيه صفة الصانع وصفة الساحر فجمعت الصفتان في نفس الشخص. وكان الغرض من النظرة السحرية ومن النظرة الفنية واحدا في الحياة البدائية ألا وهو التسلط على العالم الخارجي مهما كان اعتباره، وضرورة الحصول على الطعام، وتجنب الألم والموت. وثلث ما نعرف اليوم على الأقل من الأساليب الفنية في الصيد والقنص والطب ودباغة الجلود وصناعة الأحجار والخشب والعظام والرسم والتحنيط يرجع إلى العصر الباليوليثي. وهذه كلها تمثل تقدما عظيما بالنسبة إلى المرحلة الحيوانية(19)». ومن الوجهة الثانية أي ارتباط النظرة السحرية الأسطورية إلى العالم بتركيب البنية الاجتماعية للمجتمعات البدائية فإن الثقافة البدائية أقامت تصورًا للعالم على نسق بناء المجتمع البدائي نفسه: فجمع الإنسان البدائي الطبيعة والمجتمع في كل واحد، ووحد بين الأشياء والأحياء في وحدة كونية واحدة. وكما أدرك أن للأحياء (نفوسا) فقد جعل للأشياء (أرواحا).
لم يتصور البدائي عالمه الطبيعي جامدًا صامتًا، بل تصوره حيًا مدركًا: يسمع ويجيب ويتكلم ويرد... إلخ. لقد كانت (الجماعية) التي تحدد بنية العشيرة الطوطمية والجماعة البدائية عامة لا تعرف الفصل بين الفرد والمجموع، بل لا تعرف الفصل بين الأحياء والأموات. و(كلية) العشيرة ليست ـ في الثقافة البدائية ـ سوى جزء متحد بكائنات العالم الحية وبأشيائه الجامدة. وفي هذه النظرة الأسطورية إلى العالم تتبدَّى الأرواح حالَّة في كل مكان مالِئة كل فراغ، ساكنة كل شيء. وتتبدَّى قوى الطبيعة وظواهرها من أجرام وكواكب وأنهار وبحار ورياح، قوى وظواهر (حية) قادرة على الإدراك والفعل والتأثير. كما تتبدى الجوامد من أحجار وجبال وأشجار وصخور كائنات حية قادرة على الفهم والتدبير. وجعلت هذه النظرة الأسطورية بين قوى الطبيعة وظواهرها وجوامدها (علاقات) شبيهة بما بين البشر فهي تعرف الحب والكراهية، والرضا والغضب، والجنس والزواج والإنجاب، والقوة والضعف... إلخ. أي أن النظرة الأسطورية بثت في الطبيعة (إنسانية) تعي وتفعل وتؤثر.
ومن الطبيعي في تصور البدائيين لعالمهم أن تكون آلهتهم على صورتهم الإنسانية، ما دام عالمهم الطبيعي على نسق بنائهم الاجتماعي. وعلى هذا فإن «مجتمع الآلهة» إنما يقوم على نمط (مجتمع البشر): تتحكم فيه الرغبة والرهبة والعاطفة والنزوة، وتتصارع فيه قوى الخير والشر، ويعرف الحرب والسلام، ويعرف العفو والانتقام، كما يعرف ما يعرفه البشر من علاقات الذكور والإناث. وبين مجتمع الآلهة ومجتمع البشر علاقات تسودها الرحمة والقسوة والشفاعة والقبول والرفض والخداع والاغتصاب، فالآلهة على نسق مجتمع البشر، فلكل إله منزلته ولكل منهم وظيفته.
ونصل من هذا إلى أن العمل الاجتماعي بأدواته وخبراته وعلاقاته قد خلق طاقتي التجريد والتعميم في الإنسان، وبذلك أهّل هذا الإنسان لأن يكون على درجة فكرية مناسبة لواقعه التجريبي والاجتماعي. ولما كان العمل في ذلك الطور الإنساني متخلفًا في ظروفه ووسائله فإن الإنسان البدائي ـ مستعينا بالتجريد والتعميم ومفكرا بالمفاهيم والرموز ـ قد استعان بالأساليب والطقوس السحرية ليتخطى ذلك التخلف، فكان السحر عنده عملا حقيقيا مستفيدا من التجربة العملية مكملا لجوانب النقص فيها. كذلك كانت الأسطورة ـ في ذلك المنطق البدائي ـ عالمًا حقيقيًا محددًا بما وعاه البدائي من معرفة بعالمه الفعلي ومكملا لوجوه النقص في هذا العالم الفعلي. لقد كانت الممارسة السحرية ـ في الثقافة البدائية ـ عملًا غير بعيد عن العمل الإنتاجي، كما كانت الأسطورة علمًا غير بعيد عن الفكر البدائي. وليس شك أن هذه العلاقة السحرية الأسطورية بالعالم كانت تمنح البدائيين قوة في مواجهة عالمهم الطبيعي والاجتماعي، كما كانت تمنحهم ثقة غير محدودة بإمكان السيطرة على هذا العالم وتوجيهه إلى العمل على النحو الذي يحقق غاياتهم. وليس شك كذلك أن التطور العملي الاجتماعي للبشرية في حضارات المجتمعات البدائية كان يواكبه بناء فكري (رمزي) يسد النقص في ذلك التطور العملي ويتجاوز تخلفه ويحقق للإنسان ـ أسطوريًا ـ سيادته على عالمه. ولم يكن هذا البناء الفكري في حقيقته ـ كما رأينا ـ غير انعكاس للواقع العملي في تلك المجتمعات وللبناء الاجتماعي فيها. كما كان هذا البناء الفكري ـ العلاقة السحرية الأسطورية بالعالم ـ من أهم الجذور التي تفرعت ونمت منها الخبرات التكنيكية والمعارف العلمية والأديان الراقية والفلسفات المثالية(20). كذلك كان ـ وهو ما يعنينا هنا ـ من أهم الأصول الأولى للفن.