كتاب " النظام القانوني للمرافق العامة في ليبيا " ، تأليف أ. محمد عبد القادر بوليفة ، والذي صدر عن دار زهران ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب النظام القانوني للمرافق العامة في ليبيا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

النظام القانوني للمرافق العامة في ليبيا
المطلب الأول: المفهوم العضوي للمرفق العام
يركز بعض الفقهاء اهتمامهم في معرض التعريف بالمرافق العامة على المفهوم العضوي للمرفق العام Le Conception Organique ، أي على المنظمة التي تتولى النشاط لا على النشاط ذاته ، وبالتالي يولون دراسة المرافق العضوية جلَّ عنايتهم على اعتبار أنها الأصــل العام (12) .وعلى ذلك يعرفون المرفق العام بأنه " منظمة عامة تنشؤها السلطة الحاكمة ، وتخضع في إدارتها لإرادة هذه السلطة ، بقصد تحقيق حاجات الجمهور العامة بطريقة منظمة ومطردة ، مع مراعاة مبدأ المساواة بين المنتفعين " (13) .
وقد أخذ بهذا الاتجاه بعض الفقه في فرنسا مثل Rolland ، و Morange (14) . كذلك الفقيه ( هوريو ) الذي عرّف المرفق العام بأنه منظمة عامة تملك من السلطات والاختصاصات ما يكفل لها القيام بخدمة معينة تسديها للجمهور على نحو منتظم (15) .
ومن الفقهاء الذين أخذوا بالمفهوم العضوي في الفقه المصري الدكتور محمد وحيد رأفت، حيث عرَّف المرافق العامة بأنها الهيئات والمشروعات التي تعمل باطراد وانتظام تحت إدارة الدولة ـ أو أحد الأشخاص الإدارية الأخرى ـ المباشرة أو تحت إدارتها العليا لسد حاجات الجمهور والقيام بأداء الخدمات العامة (16) .
وتأسيساً على ما تقدم ، فإن مفهوم المرفق العام من الناحية العضوية يقوم على عنصرين : عنصر التكوين ، وعنصر التبعية .
فمن ناحية التكوين ، المرفق لا يعدو إلا أن يكون كياناً مادياً ، أي طائفة من الوسائل المادية والبشرية ، حيث تتمثل الوسائل المادية في الأبنية والأثاث والأموال التي يدير من خلالها الجهاز أو الهيئة نشاطها ، وتتجسد الوسائل البشرية في جماعة الموظفين والعاملين الذين يقومون بإدارة ما ينشغل به هذا الجهاز من أعمال وما يبرمه من تصرفات (17) .
أما من ناحية التبعية ، فإن هذه الهيئة لكي تكتسب صفة المرفق العام لابد أن تتبع أحد أشخاص القانون العام . فالمفهوم العضوي أو الشكلي يركز على صفة وشكل الجهة التي تباشر النشاط ، فإذا كانت هذه الجهة من الجهات الإدارية التابعة للدولة ، أي من الأشخاص الاعتبارية العامة فإننا نكون أمام مرفق عام ، أما إذا لم تكن كذلك فإننا نكون أمام مشروع من المشروعات الخاصة (18) .
وعلى هذا النحو تعتبر الجامعات ، وأمانة الصحة ، وأمانة المرافق ، وأمانة التعليم، والهيئة العامة للمياه ... إلخ ، مرافق عامة من الناحية العضوية . فالعبرة إذن وفقاً لهذا المفهوم هي بالهيئة التي تمارس النشاط بصرف النظر عن طبيعة وموضوع النشاط ذاته (19).
وقد أخذت محكمة التنازع الفرنسية بالمدلول العضوي للمرفق العام في أقدم أحكامها ، وهذا ما نستخلصه من حكمها في قضية بلانكو Blanco الصادر عام 1873.
وتتلخص وقائع قضية بلانكو في أن عربة صغيرة تتبع مصنع التبغ صدمت الطفلة بلانكو فأصابتها بجراح ، فرفع والد الطفلة النزاع إلى القضاء العادي ، إذ أقام دعوى تعويض ضد الدولة باعتبارها مسؤولة مدنياً عن الخطأ الذي ارتكبه عمالها . غير أن مدير المصنع رأى أن الاختصاص بهذه الدعوى يجب أن يكون لمجلس الدولة وليس للمحاكم العادية ، فأصدر قرار التنازع محيلاً إياه إلى محكمة التنازع ، وكان على محكمة التنازع أن تفصل فيمن له من جهتي القضاء ـ الإداري أو العادي ـ الاختصاص العام بنظر دعاوى التعويض ضد الدولة .
وقد أصدرت محكمة التنازع حكمها في القضية مقررةً أن الاختصاص للمحاكم الإدارية، حيث أضفت في هذا الحكم وصف المرفق العام على مصنع الدخان على اعتبار أنه كان تابعاً لأكبر أشخاص القانون العام .
وبذا يكون حكم بلانكو الذي يعد حجر الزاوية في بناء نظرية المرفق العام في فرنسا قد اعتمد في رؤيته للمرفق العام على المفهوم العضوي دون غيره (20) .
ويرى البعض من الفقه ، أن محكمة التنازع الفرنسية إنما أخذت في هذا الحكم بالمفهوم الموضوعي للمرفق العام ، وذلك على اعتبار أن محكمة التنازع قد حددت اختصاصها بالنظر في هذه الدعوى على أساس أن هذا النشاط الذي ترتبت عليه المسؤولية مرتبط بنشاط المرفق الذي تديره الدولة (21) .
إلاَّ أننا نرى أن هذا الرأي يأتي مناقضاً لما أكده الحكم ـ كما سبق أن أوضحنا ـ وما أعلنه المفوض David في تقريره في هذه القضية ، الذي أوضح فيه " إن جميع المرافق العامة لا تعدو أن تكون فروعاً للإدارة تتصرف الدولة في إدارتها تصرف السلطة العامـة " (22) .
ونخلص مما سبق إلى أن محكمة التنازع الفرنسية قد أخذت في أول أحكامها لاسيما خلال القرن التاسع عشر بالمفهوم العضوي لا المادي للمرفق العام ، وظل هذا المفهوم هادياً للقضاء في أحكامه ، لما يتمتع به من بساطة في الفهم وسهولة في التطبيق ، وساعد على ذلك الدور المحدود للدولة آنذاك ، الذي توقف عند دور الدولة الحارسة المتمثل في حماية الأمن الداخلي والخارجي ، كما كانت المرافق العامة مقصورة بطبيعة دور الدولة في تلك الفترة على المرافق العامة الإدارية . وهذا ما سبق ملاحظته في حكم بلانكو الذي اُتخذ أساساً قضائياً لنظرية المرافق العامة ، حيث شكل التلازم بين المرفق العام والشخص العام كترجمة للمعيار العضوي أساساً لإضفاء صفة المرفق العام على مصنع الدخان نظراً لتبعيته للدولة (23) .
بيد أن ما حدث من تطور في الحياة الإدارية لا سيما في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما خلفته من آثار اقتصادية واجتماعية أدى إلى الحاجة إلى ظهور أنشطة جديدة، وارتياد مجالات اقتصادية واجتماعية وتجارية حديثة ، الأمر الذي صارت معه الفكرة العضوية للمرفق العام عاجزة عن مواجهة هذه التطورات ، وتقديم تبرير منطقي لتلك الظواهر المستجدة على نحو تأكد معه أن المرفق العام لم يعد مرتبطاً بالشخص العام ارتباطاً وثيقاً (24) . وإنما أصبحت فكرة النشاط المشبع للحاجات التي يقتضيها النفع العام Utilit publique أو المصلحة العامة Intéret publiqueمع بداية هذا القرن هي الفكرة التي يدور عليها تعريف المرفق العام ، وبالتالي أصبح الاتجاه في تغليب الجانب المادي على الجانب العضوي في تعريف المرفق العام هو الاتجاه الغالب لدى الفقه والقضاء المقارن(25).
وفي الجماهيرية ، رغم عدم اهتمام المشرع ولا القضاء بتحديد فكرة المرفق العام . إلاَّ أنه يلاحظ بوضوح أن القضاء الإداري الليبـي قد أخذ في كافة أحكامه قديمها وحديثها بالمفهوم العضوي للمرفق العام مرجِّحاً إياه على المفهوم المادي وذلك سواء عند تحديده لمصطلح الموظف العام ، أو القرار الإداري والمال العام والعقد الإداري . بمعنى أنه اعتمد ـ في أحكامه هذه ـ على صفة وشكل الهيئة التي تدير النشاط لا على جوهر النشاط ذاته ، فإذا كانت هذه الهيئة من الأشخاص الاعتبارية العامة فإننا نكون إزاء مرفق عام أما إذا كانت من الأشخاص الاعتبارية الخاصة فإننا لا نكون أمام مرفق عام (26) .
وهذا ما يتبين لنا جلياً من الحكم الصادر بتاريخ 26 / 11 / 75 في الدعوى المرفوعة من نائب المدير الإداري للشركة العامة لاستيراد وبيع الآلات الزراعية ، والتي تقدم بها أمام دائرة القضاء الإداري بمحكمة استئناف طرابلس طالباً فيها إلغاء القرار الصَّادر عن اللجنة الشعبية للشركة بفصله بغير الطريق التأديبي ، على اعتبار أنه موظف عام يقوم بأداء خدمة عامة لدى مرفق عام ، وبالتالي فإن دوائر القضاء الإداري هي وحدها المختصة بالفصل في طلباته طبقاً للقانون رقم ( 88 ) لسنة 71 في شأن القضاء الإداري . إلا أن دائرة القضاء الإداري رفضت طلب الطاعن ، وقضت بعدم اختصاصها بنظر دعواه ، موضحةً ذلك بقولها " ... وحيث أن المدعي ليس موظفاً عاماً ، وإنما هو من العاملين في إحدى شركات القطاع العام التي لا تعتبر من المرافق العامة ، وملكية الدولة لأموالها لا تضفي عليها هذه الصفة ولا تستوجب إخضاعها للقواعد المتعلقة بالمرافق العامة في القانون الإداري ، بل تظهر محتفظة بشكلها كشركة تجارية من أشخاص القانون الخاص لها شخصيتها الاعتبارية الخاصة وميزانيتها المستقلة عن ميزانية الدولة ... ومن ثم فإنه داخل هذا الإطار تنتفي عن العاملين بها صفة الموظفين العامين ، كما تنتفي عن قراراتها صفة القرارات الإدارية ... "(27) .