هذا كتابٌ طموح، ليس على سبيل الأدعاء. إنّه طموح لأنّه يحاول- ضمن حيز الصفحات القليلة نسبيًّا- أن يوضح التاريخ المتنوع لعلم الأنثروبولوجيا.
أنت هنا
قراءة كتاب تاريخ النظرية الأنثروبولوجية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عاش هيرودتس الهاليكارناسيس (484- 425 ق. م) في مثل هذا المجتمع المحلي. بدأ هيرودتس- المولود في مدينة مستعمرة يونانية على الساحل الجنوبـي الغربـي لما يعرف اليوم بتركيا- السفر كرجل شاب، واكتسب معرفة حميمة عن العديد من الشعوب الأجنبية التي حافظ اليونانيون على صلاتٍ معها. يُذكر اليوم هيرودتس بصورة رئيسية لتاريخه عن الحروب الفارسية، ولكنّه كتب كذلك قصص رحلات مفصلة عن أجزاء متنوعة لغرب آسيا ومصر، وعن مناطق بعيدة كبعد السيثيين على الساحل الشمالي للبحر الأسود. في هذه القصص- البعيدة كل البعد عمّا نحن عليه في عالمنا الحاضر- نتعرف على مشكلة ظلّت تتبع الأنثروبولوجيا بأقنعة متنوعة حتى اليوم: كيف أنّ علينا أنْ نتصل بـ‘الآخر’؟ هل هم مثلنا من حيث الأساس، أم إنهم مختلفون عنّا أساسًا؟ حاولت الكثير من النظريات الأنثروبولوجية أنْ تقيم توازنًا بين هذه المواقف، وهذا ما حاول هيرودتس القيام به بالضبط، إذ يظهر ببساطة أحيانًا ‘رجلاً مدنيًّا’ متعصبًا وذا مركزية عرقية، ممن يحتقر كل شيء أجنبـي، ويعترف في أوقات أخرى أنّ للناس المختلفين قيمًا مختلفة لأنّهم يعيشون في ظلّ ظروف مختلفة، وليس لأنّهم ناقصون أخلاقيًّا. واليوم تقرأ توصيفات هيرودتس رفيعة المستوى للغة واللباس، والمؤسسات السياسية والتشريعية، والحِرَف والاقتصاد. ورغم أنّه أحيانًا حصل على الأشياء بشكلٍ خاطئ بصورة واضحة؛ فقد كان عالِمًا دقيقًا حدّ النقنقة، ممن ترك كتبًا هي في الغالب المصادر المكتوبة الوحيدة فقط التي نملكها عن شعوب ذلك الماضي البعيد.
اختبر العديد من اليونانيين حصافتهم على الضدّ من العبارات الفلسفية الموهمة بالتناقض، التي تُلمس على نحوٍ مباشر عن مشكلة: كيف أنّ علينا أنْ نتصل بـ‘الآخرين’؟ وهذا هو تناقض الكونية على الضدّ من النسبية. يمكن أنْ يحاول كونيّ اليوم الحاضر التعرف على ما هو شائع ومتماثل (أو حتى الكونيات) بين المجتمعات المختلفة، بينما يود النسبـي أنْ يشدد على تفرد وخصوصية كل مجتمع أو ثقافة. يُوصَّف سفسطائيو أثينا أحيانًا كما لو أنّهم أول النسبيين المتفلسفين حسب التقاليد الأوربية (اهتم بضعة مفكرين معاصرين تقريبًا في آسيا، مثل: كوتاما بوذا، كونفوشيوس ولاو- تزاي بقضايا مماثلة). وفي حوارات أفلاطون (447- 327 ق. م) البروتاجوراس والجورجياس، يجادل سقراط مع السفسطائية، قد نصورهم بمعركة فكرية نـزيهة، محاطين بمعابد ملونة وبنايات عامة وقورة، مع عبيدهم ممن نادرًا ما كانوا منظورين، حيث يقفون في الظلّ بين الأعمدة. يقف مواطنون آخرون كمشاهدين، فيما يتمكن إيمان سقراط بالكونية من التأكيد على الحقائق الكونية، ويتم تحدي هذا من وجهة النظر النسبية التي تقول بتباين الحقيقة على الدوام على أساس التجربة، وما يسميه الناس اليوم "ثقافة".
لا تتعامل حوارات أفلاطون مباشرةً مع الفروق الثقافية، ولكنّها تشهد على حقيقة أنّ المواجهات عبر الثقافية كانت جزءًا من الحياة اليومية في دول المدينة. امتدت طرق التجارة اليونانية من مضيق جبل طارق إلى أوكرانيا الوقت الحاضر، وخاض اليونانيون حروبًا مع الفرس والعديد من ‘البرابرة’ الآخرين، وبدا مصطلح "البربري" ويعني: ‘أجنبي’ بالنسبة للأذن اليونانية كما لو أنّ هؤلاء الغرباء كانوا قادرين فقط أنْ يقولوا: ‘بار- بار’، ‘بار- بار’. وبالمثل في روسيا، يُدعى الألمان حتى هذا اليوم: نيمتسي (الخرسان): أولئك الذين يتكلمون، إلا إنّهم لا يقولون شيئًا.
انغمس أرسطو (384- 322 ق. م) كذلك في تأملات رفيعة المستوى حول الطبيعة الإنسانية، وناقش في أنثروبولوجيته الفلسفية الفروق بين الناس على وجه العموم والحيوانات، وتوصل إلى أنّه على الرغم من أنّ للناس بضع حاجات مشتركة مع الحيوانات؛ فإنّ الإنسان فقط هو الذي يملك العقل والحكمة والأخلاق. كما جادل أرسطو كذلك في أنّ البشر اجتماعيون من حيث الجوهر بطبيعتهم. في الأنثروبولوجيا وأي مجال آخر، فإنّ مثل هذا الطراز الكوني للفكر، والذي يرمي إلى تأسيس التماثلات بدلاً من الاختلافات بين جماعات البشر، يلعب دورًا مهمًّا حتى اليوم. زد على ذلك، فإنه يبدو من الواضح أنّ الأنثروبولوجيا، صعودًا في التاريخ، تأرجحت بين الوقفة الكونية والنسبية، وأنّه غالبًا ما قيل كذلك إنّ الرموز المركزية في مجال العلم مالت كذلك إما لهذا الموقف أو ذاك.