أنت هنا

قراءة كتاب تاريخ النظرية الأنثروبولوجية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تاريخ النظرية الأنثروبولوجية

تاريخ النظرية الأنثروبولوجية

هذا كتابٌ طموح، ليس على سبيل الأدعاء. إنّه طموح لأنّه يحاول- ضمن حيز الصفحات القليلة نسبيًّا- أن يوضح التاريخ المتنوع لعلم الأنثروبولوجيا.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 8

عصر التنوير

شهد القرن الثامن عشر ازدهار العلم والفلسفة في أوربا. وخلال تلكم السنين، ازدادت الثقة الذاتية للبورجوازية، وتأمل المواطنون بالعالم والمكان الذي هم فيه، وسرعان ما صنعوا مطالب سياسية من أجل نظام اجتماعي، عقلاني، عادل، متنبأ به وشفاف. كانت الكلمة الرئيسية التنوير. وكما جادل هوبز ولوك وديكارت، كان على الفرد الحر أنْ يكون المقياس لكل الأشياء- للمعرفة والنظام الاجتماعي- حيث لم تعد سلطة الإله والحاكم لتؤخذ كمسلمات. وقد طوّرت الأجيال الجديدة للمثقفين هذه الأفكار أكثر؛ فالتقوا في نواد وصالونات غير رسمية ليناقشوا الفن والفلسفة والقضايا الاجتماعية. كما تطورت الرسائل الشخصية والسيرة الذاتية إلى صحف ودوريات وروايات، وعلى الرغم من الرقابة التي كانت لا تزال شائعة في معظم الأماكن في أوربا؛ سرعان ما اكتسب الإعلام الجديد حريةً وتداولاً أكبر. استهدفت البورجوازية أنْ تحرر نفسها من سلطة الكنيسة والنبلاء، وأنْ تؤسس بدلاً عنهما ديموقراطية علمانية، وقد شجبت على نحوٍ متزايد الاعتقادات الدينية التقليدية على اعتبار أنّها خزعبلات أو حواجز طرق على درب المجتمع الأفضل المحكوم بالعقل. بدت فكرة التقدم كذلك لتتأكد من خلال تطور التكنولوجيا، التي حققت تقدمها العظيم الأول في ذلك الزمان. جعلت التكنولوجيات الجديدة القياسات العلمية أكثر دقة، وبدأت الآلة الصناعية بالظهور. وقد أصبحت محاولة ديكارت النظرية الخالصة لإثبات كونية حقيقة علم الرياضيات بصورة مفاجئة قضية عملية ذات صلة مشتعلة، من حيث إنّه إذا كان علم الرياضيات- لغة العقل- يمكن أنْ يكشف مثل هذه الحقائق الطبيعية الجوهرية مثل قوانين نيوتن، ألا يتبع ذلك أنّ الطبيعة نفسها كانت معقولة، وأنّ أي مشروع مقاد بالعقل كان عليه أنْ ينجح؟ توجت كل هذه التوقعات بصورة مفاجئة في الثورة الفرنسية، التي حاولت أنْ تدرك الحلم لبلوغ نظام اجتماعي عقلاني بصورة تامة وعملية، ولكنّها سرعان ما غُلبَت بنقيضها اللاعقلاني: التهمت الثورة أبناءها. وذوتْ من ثمّ كل الأحلام، وانتشرت خيبات الأمل وتناقضات الثورة خلال الحروب النابليونية في بدايات القرن التاسع عشر إلى كل أوربا، وأثرت بعمق على أفكار المجتمع، مما كان على أجيال لاحقة أنْ تطورها.
ولكننّا لا نـزال في القرن الثامن عشر، ‘عصر العقل’، عندما تمّ القيام بأولى المحاولات لابتكار العلم الأنثروبولوجي. كان عمل جياباتستا فيكو (1668- 1744) من الأعمال المبكرة الأولى (العلم الجديد "1725"، 1999). كانت هذه أطروحة عظيمة للإثنوغرافيا، وتاريخ الدين والفلسفة والعلم الطبيعي. اقترح فيكو مخططًا كونيًّا للتطور الاجتماعي، تمّر بمقتضاه كل المجتمعات بمراحل أربعة، وبخصائص معينة ومحددة رسميًّا. كانت المرحلة الأولى ‘الحالة البهيمية’ بلا أخلاقيات أو فن، تبعتها مرحلة ‘عصر الآلهة’، وهو عصر تعبّد الطبيعة والبنى الاجتماعية الأولية. ثمّ جاء ‘عصر الأبطال’، مع اضطرابات اجتماعية واسعة الانتشار بسبب التفاوت الاجتماعي الكبير، و‘عصر الرجال’، حيث اختفت الفروق الطبقية وسادت المساواة. تمّ تهديد هذه الحقبة بدورها، على أية حال، بالفساد الداخلي والعودة إلى ‘البهيمية’. نرى هنا، لأول مرة، نظريةً للتطور الاجتماعي لا تضاد فيها البربرية بالمدنيّة فقط، ولكنها تفصّل عددًا من المراحل الانتقالية. وسرعان ما أصبحت نظرية فيكو نموذجًا يحتذى به بالنسبة لتطوريين لاحقين، ابتداء من ماركس حتى فريزر. كان لفيكو عنصر افتقر إليه معظم أتباعه، حيث إن المجتمعات لا تتطور بصورة خطية بالضرورة نحو أحوال محسنة على الدوام، ولكنّها تمضي خلال دورات للانحطاط والنمو، وهذا يعطي عمل فيكو التنويري نصًّا ثانويًّا نقديًّا ورومانسيًّا، كما عند روسو (انظر فيما يلي أدناه).
كان فيكو الرائد الإيطالي في فرنسا عندما أُخذت الخطوات الأولى باتجاه إنشاء الأنثروبولوجيا كعلم. وفي عام 1748، طبع البارون مونتسكيو (1689- 1755) عمله (روح القوانين، 1977). كان الكتاب دراسة مقارنة عبْر ثقافية للأنظمة التشريعية مما كان لمونتسكيو معرفة أولى أو ثانوية بها، والتي حاول من خلالها أنْ يشتق المبادئ العامة التي تؤطر النظم التشريعية عبر الثقافات. صوّر مونتيسكيو النظام التشريعي كجانب للنظام الاجتماعي الأوسع، متظافرًا على نحوٍ حميم مع العديد من الجوانب الأخرى للكل الأكبر (السياسة، الاقتصاد، القرابة، الديموغرافيا، الدين، الخ)، وهي نظرة أدت بالعديدين إلى أنْ يصفوه بكونه وظيفيًّا من حيث الأساس (الفصل الثالث). وطبقًا لمونتسكيو، يمكن تفسير تعدد الزوجات، وآكلي لحوم البشر، والوثنية، والعبودية، والعادات البربرية الأخرى من خلال الوظائف التي تقوم بها داخل المجتمع ككل. كتب مونتسكيو كذلك كتاب الرسائل الفارسية الملفت للنظر ("1722"؛ 1973)، والذي كان حشدًا من الرسائل الخيالية من فارسيين اثنين يصفان فرنسا لأبناء جلدتهما. استغل مونتسكيو هنا ‘غربة’ الاختلاف الثقافي بالنسبة للمحاكاة الساخرة حينها للويس السادس عشر (XIV). كان الكتاب مثيرًا للتفكر، ويبقى حتى اليوم باعثًا على الجدل، من حيث إنّ مونتسكيو اتهم مؤخرًا بكونه استشراقيًّا أساسًا (سعيد 1978، 1993)، ممن شدد بإفراط على غرابة الفرس. ومما لا شك فيه كان هذا النقد مبررًا، وكان هدف مونتسكيو الرئيسي بوضوح ألا يصف بلاد فارس وإنّما لينتقد فرنسا، إلا إنّ الرسائل الفارسية كشفت كذلك الفهم المرهف لمشكلةٍ يُشار إليها أحيانًا على أنّها العمى المنـزلي في الأنثروبولوجيا المعاصرة؛ حيث انعدام قدرتنا لنبصر ثقافتنا نحن ‘موضوعيًّا’، ‘من الخارج’. استخدم مونتسكيو تقنية معينة لتجاوز هذه المشكلة، وهي وصف مجتمعه هو من وجهة نظر شخص ما خارجي، ولا يزال علماء الأنثروبولوجيا النقدية يستخدمون هذه التقنية حتى اليوم.

الصفحات