هذا كتابٌ طموح، ليس على سبيل الأدعاء. إنّه طموح لأنّه يحاول- ضمن حيز الصفحات القليلة نسبيًّا- أن يوضح التاريخ المتنوع لعلم الأنثروبولوجيا.
أنت هنا
قراءة كتاب تاريخ النظرية الأنثروبولوجية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أُخذت خطوة أخرى نحو علم الأنثروبولوجيا من قبل جماعة من المثقفين الفرنسيين المثاليين الشباب. كان أولئك هم الموسوعيون، بقيادة الفيلسوف دنيز ديدرو (1713- 1784) وعالم الرياضيات جان لي روند أليمبيرت (1717- 1783). كان هدفهم أنْ يجمعوا ويصنفوا وينظموا بقدر ما يستطيعون المعرفة بنظامٍ يسعى لزيادة تقدم العقل، والتطور، والعلم والتكنولوجيا. نشرت موسوعة ديدرو في الأعوام (1751- 1772)، وتضمنت مقالات كتبت من قبل مثقفين توضيحيين مثل: فولتير ومونتسكيو، وسرعان ما أسست الموسوعة نفسها كنموذج لمشاريع لاحقة من نوعها. كانت ليبرالية وذات مدى واسع، وليست فحسب عملاً ثوريًّا، خضع للرقابة في أجزاء عديدة من أوربا لنقدها الفج للكنيسة، ولكن احتوت الـ17 مجلدًا للموسوعة و11 صورة توضيحية كذلك مواد تبعث على الجدل، كما في التوصيفات التفصيلية للأدوات الميكانيكية التي طورت من قبل فلاحين اعتياديين وصنّاع يدويين مهرة. في الحقيقة أُخذت مثل هذه القضايا بجديّة على صعيد العمل الأكاديمي مما لم يسمع به من قبل، وأشير إلى أنّه سرعان ما أصبح مشروعًا أنْ ندرس الحياة اليومية للناس الاعتياديين. احتوت الموسوعة على توصيفات مفصلة للثقافة والعادات الاجتماعية في كل أنحاء العالم. كان ماركوز كوندورسييه (1743- 1794) أحد أصغر المساهمين الشباب فيها، ممن توفي في السجن، وقد كتب مقارنات منظمة بين النظم الاجتماعية المختلفة، وحاول أنْ يطوّر أطروحة في الرياضيات والعلم الاجتماعي مما يمكن أنْ يسمح بتشكيل قوانين موضوعية للتطور الاجتماعي.
كان جان جاك روسو (1712- 1778) بلا شك من أكثر المساهمين تأثيرًا بالموسوعة. وعلى الضدّ من معظم معاصريه، جادل روسو على أنّ التطور لم يكن تقدميًّا، وإنّما انحلاليّ، وأنّ المجتمع نفسه كان مصدر هذا التدهور، ابتداء من حالة أولية بريئة للطبيعة، حيث عاش كل فرد بنفسه ولنفسه بانسجام مع محيطه، ثم ذهب الناس ليوجدوا مؤسسات الزواج والقرابة، واستقروا في جماعات صغيرة وحضرية. في النهاية، نمت هذه الجماعات في كمّ معقد، واخترعت رجال الدين والشيوخ، والملوك والأمراء، والملكية الخاصة، والشرطة والقضاة، حتى صُدمت الروح الحرة والطيبة للإنسان تحت ضغط التفاوت الاجتماعي. كان كل البشر نتاج النمو في التفاوت الاجتماعي، وتعقب روسو السقوط الأصلي من الشرف الرفيع حتى مجيء الجسد إلى العالم. ‘ولد الإنسان حرًّا، إلا إنّه مقيّد بالسلاسل أينما كان’. وهذا ما صرح به في كتابه الموسوم: حول العقد الاجتماعي ("1762"؛ 1978)، ولكنّه وعد بأنّ ‘العقد الاجتماعي المزيف’ لزمانه قد يستبدل بآخر حقيقي، عقد يقوم على الحرية والديموقراطية. حمل روسو إذن نفس الأحلام الطوباوية كما لدى فيكو أو كوندورسييه، على الرغم من تشككه فيما يتعلق بالوضع الراهن.
كان يمكن لنموذج المجتمع المثالي لروسو أن يوجد فيما بين ‘الوحوش النبلاء’، الشعوب الحرة عديمة الدولة. وكانت إعادة التقييم هذه للمجتمعات البسيطة بجلاء خطوة ذات مغزى باتجاه النسبية الثقافية الحقيقية، إلا إنّ نسبية روسو مضت فقط بعمق البشرة. بالنسبة له كذلك، كان ‘البدائيون’ من ذوي الأهمية من حيث الأساس؛ لكونهم يمثلون عكس زمانه. كانوا رموزًا للإنسان العقلاني ممن يمكن أنْ تعاد ولادته في مجتمع مثاليّ للمستقبل. كان الإنسان إما حرًّا وعاقلاً أو غير حر وفاسد، ومع هذا كمسلمة فكرية، اعتقد أنّ التحقيقات التي توضع اليد عليها بالنسبة للاختلافات الثقافية الميدانية غير ذات صلة. ولا يزال روسو مصدرًا مهمًّا للإلهام بالنسبة لعلماء اجتماعيين لاحقين من ماركس إلى ليفي شتراوس، وغالبًا ما كان يعتقد أنّه وسيط بين عصر التنوير الفرنسي وعصر الرومانسية الألمانية، التي ظهرت أواخر القرن الثامن عشر، بجانبٍ منها كرد فعل على فلسفة عصر التنوير. هنا، حُمِلَت احتفالية روسو بـ‘الإنسان الأصيل’ أكثر، وقدمت أول مفهومات الثقافة على نحوٍ جليّ.