أنت هنا

قراءة كتاب تاريخ النظرية الأنثروبولوجية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تاريخ النظرية الأنثروبولوجية

تاريخ النظرية الأنثروبولوجية

هذا كتابٌ طموح، ليس على سبيل الأدعاء. إنّه طموح لأنّه يحاول- ضمن حيز الصفحات القليلة نسبيًّا- أن يوضح التاريخ المتنوع لعلم الأنثروبولوجيا.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 6

كان هناك مثل مشهور في الجدل الفلسفي العظيم بين الإمبيريقيين والعقلانيين خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وحُمِلَ الموقف السابق من قبل الفلاسفة البريطانيين من أمثال جون لوك (1632- 1704)، حيث اعتبر لوك العقل الإنساني كما لو أنّه كان لوحًا فارغًا عند الولادة، وكل أفكارنا وقيمنا وافتراضاتنا هي نتيجة تجاربنا- أو ‘نوع من الانطباعات’- عن العالَم. لا يولد الناس مختلفين، ولكنّهم يصبحون مختلفين من خلال التجارب المختلفة. وبهذا يقدم لوك الأرضية المعرفية المنهجية لعلم المجتمع الذي يربط المبدأ الكوني (خُلقنا جميعًا متماثلين) والمبدأ النسبـي (تجاربنا المختلفة تجعلنا مختلفين)، إلا إنّ فلاسفة القرن السابع عشر أقل تخصصًا مما هم عليه في يومنا هذا؛ لذلك كان من الشائع تمامًا لرجل مثل لوك أنْ يخطو مباشرةً من مناقشة علم الوجود إلى التعليق السياسي المعاصر. وقد كانت لتجريبية لوك هذه نتائج مباشرة بالنسبة لجدله السياسي لصالح مبدأ ‘القانون الطبيعي’، والذي كان الأساس للفكرة الحديثة لحقوق الإنسان الكونية. تعود فكرة أنّ كل البشر ولدوا بحقوق جوهرية معينة إلى القرون الوسطى، عندما قال توما الأكويني (1225- 1274) إنّ حقوق الإنسان أعطيت له من قبل الخالق. لكن الفلاسفة في القرن السابع عشر من أمثال لوك وتوماس هوبز (1588- 1679) جادلوا على أنّ القانون الطبيعي لم ‘يعط’ من الأعلى، ولكنّه موجود ضمنًا في الحاجات البيولوجية للفرد. وعليه، قُلِبَ الجدل رأسًا على عقب، وذلك من خلال كون الإنسان هو منْ له حقوق، وأنّ الحقوق لم تعط من قبل الإله أو الشرف (الملكي). كان ذلك موقفًا جذريًّا في حينه، وحتى عندما استخدِم بجلاء لتبرير الأوتوقراطية (كما فعل هوبز)، كما كان لهذا الموقف طاقة ثورية كامنة؛ حيث تمّ تحدي الملوك والأمراء في كل أنحاء أوربا، من خلال مطالبات البورجوازية الليبرالية المتململة على نحوٍ متزايد، والآخذة بالقوة على نحوٍ متزايد كذلك. من هذه المطالبات أن على الحاكم الالتزام بالقانون ليحترم حقوق الأفراد بالملكية والأمن الشخصي والجدل العقلاني العام. ويبدو آمنًا افتراض أنّ هذه القضايا خصّت لوك أكثر مما فعلت في طرق حياة الناس البعيدين، وتأثرتْ أنثروبولوجيته الفلسفية على نحوٍ كبير بهذه الحقيقة.
لا يزال إرث الحركة التجريبية البريطانية- الذي بلغ شكله الأكثر أناقة في مرحلة عصر التنوير الأسكتلندي، وعلى نحوٍ ملحوظ في فلسفة ديفيد هيوم- حاضرًا في الأنثروبولوجيا البريطانية المعاصرة، كما سنرى فيما بعد في هذا الكتاب. وبالمثل، لا تزال الأنثروبولوجيا الفرنسية والألمانية تحمل بصمة الحركة العقلانية القارية، وهو موقف ربّما كان قد نوقش بقوة من قبل رينيه ديكارت، الإنسان ذو المواهب المتعددة، ممن قام بإسهامات جوهرية في مجال علم الرياضيات والتشريح، وغالبًا ما اعتبر مؤسس الفلسفة الحديثة. لوحظ في علم الأنثروبولوجيا التمايز الحاد الذي رسمه ديكارت بين الوعي والحياة الروحية من ناحية، والعالم المادي والجسد الإنساني من الناحية الأخرى. فيما افترض التجريبيون البريطانيون أنّ العدّة الحسية للجسم كانت المصدر الوحيد للمعرفة ذات المصداقية حول العالم الخارجي. ارتاب ديكارت من الحواس؛ فتصوراتنا للعالم الخارجي هي فقط تلك- تصورات- وعلى ما هي عليه فإنّها معلّمة من خلال الإدراك بموضوع الأفكار سابقة الوجود حول العالم، ونحن نستطيع فقط أن نرى العالم من خلال مرشّح الأفكار، وعليه يجب أن تكون المهمة الأساسية للفلسفة بتأكيد ما إذا كانت الأفكار الحقيقية موجودة، وأنّها قد تشكل أساسًا محسومًا بالنسبة للمعرفة الوضعية. مع هذا الهدف على البال، افترض ديكارت موقف ‘الشك المنهجي الجذري’. يمكن أنْ تكون كل الأفكار التي يُشَك بها غير مؤكدة وبالتالي غير مناسبة كأساس للعلم. ولم تسلم العديد من الأفكار من اختبار ديكارت الحامضي، وتعبر مقولته المأثورة: "أنا أفكر؛ إذن أنا موجود"، عن يقينيته الرئيسة: أستطيع التأكد أنني موجود ما دمت أعرف أنني أفكر، إلا إنّ ديكارت أنفق قدرًا عظيمًا من الطاقة لاشتقاق يقينيتين من هذه اليقينية: يقينية وجود الله، ويقينية العبارات المستمدة من علم الرياضيات.
على الضدّ من لوك، لم يكن ديكارت فيلسوفًا اجتماعيًّا. ومع ذلك، كان طفلاً لزمانه، وعلى الرغم من إيبستمولوجيته العقلانية المعارضة لتلك التي للإمبيريقية، يضع ديكارت- مثل لوك وهوبز- الفرد في مركز البحث. بالنهاية، يستتبع دليله على وجود الله من الاعتراف الذاتي للفرد. وقد شارك الإمبيريقي ديكارت إيمانه في الكلية الإنسانية للعقل، وكان كلّ من العقلانيين والإمبيريقيين ممثلين رئيسيين لتحديد مسلمات العلم الدنيوي، وسرعان ما ظهر ممثلو النظام الاجتماعي البرجوازي الجديد في أنحاء أوربا الغربية.

الصفحات