أنت هنا

قراءة كتاب تاريخ النظرية الأنثروبولوجية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تاريخ النظرية الأنثروبولوجية

تاريخ النظرية الأنثروبولوجية

هذا كتابٌ طموح، ليس على سبيل الأدعاء. إنّه طموح لأنّه يحاول- ضمن حيز الصفحات القليلة نسبيًّا- أن يوضح التاريخ المتنوع لعلم الأنثروبولوجيا.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 10

الحركة الرومانسية

آمن عصر التنوير بالفرد والإنسان العاقل. وعلى الضدّ، حوّل الفكر الرومانسي اهتمامه من الفرد إلى الجماعة، ومن العقل إلى العاطفة. كانت هناك حركة مشابهة في السياسة، من الخطاب الكوني حول الأفراد الأحرار والديموقراطية إلى الخطاب المحدد حول بناء الأمة والعواطف القومية. إنّ من الشائع أنْ تنظر إلى الحركة الرومانسية على أنّها تيار حلّ محل حركة التنوير خلال سنوات رد الفعل التي حدثت بعد الثورة الفرنسية. ولكن ربّما كان أكثر دقة، كما اقترح إيرنست جيلنر (1991)، أنْ ننظر إلى الحركتين على اعتبار أنّهما تدفقان متوازيان، ينحرفان أحيانًا أو يتنافسان، وأحيانًا يتقاطعان ويتمازجان معًا. كان هذا الأخير شائعًا على نحو خاص في الأنثروبولوجيا، والذي استهدف ليس فقط فهم الكليات الثقافية (كما في المشروع الرومانسي)، وإنّما كذلك ليشرّح ويحلل ويقارن فيما بينها (مشروع تنويري).
كانت ألمانيا- موطن الفكر الرومانسي- لا تزال في القرن الثامن عشر تمثل ترقيعًا سياسيًّا لإمارات مستقلة ومدن مستقلة استقلالاً ذاتيًّا، وموحدة على نحوٍ مفكك تحت راية ‘الإمبراطورية الرومانية المقدسة’، والتي قال عنها فولتير مرة إنّها لم تكن مقدسة، ولم تكن رومانية، ولا إمبراطورية. كان مفهوم الأمة الألمانية إذن- على الضدّ من الأفكار الفرنسية للمجتمع والمواطنة- يقوم على اللغة والثقافة بدلاً من السياسة. كانت فرنسا دولة كبيرة وقوية، وقد هيمنت أزياؤها وشِعْرها ونظامها الملكي على العالم الغربـي، ونُظِرَ إلى أنْ تتكلم بالفرنسية أينما كان كعلامة على العقل الراجح، حتى إنّ أحد أكثر الرومانسيين الألمان شهرةً (فريدريك رايختير) أخذ اسم قلم حبر فرنسي: جين بول. كان من الطبيعي فقط للألمان المشرذمين سياسيًّا، إنّما المفوهون ثقافيًّا، أنْ يعبروا عن رد فعل بالنهاية تجاه الهيمنة الفرنسية. كان للألمان كذلك سبب أكبر ليتأملوا بالخصائص النوعية التي وحدت أمتهم بدلاً من فرنسا المركزية. وفي عام 1764 نشر الشاب جوهان جوتفرايد فون هيردير (1744- 1803) كتابه الموسوم: ‘مع ذلك فلسفة أخرى للتاريخ’، 1993، والذي كان هجمة حادة على المدافعين عن الكونية الفرنسية، على سبيل المثال، من قبل فولتير (1694- 1778). أعلن هيردير تفوق العواطف واللغة، وعرف المجتمع على أنّه مجتمع محلي ثابت وخرافي. كما جادل على أنّ للناس قيمهم هم، وعاداتهم، ولغتهم و‘روحيتهم’. من وجهة النظر هذه، كانت كونية فولتير ليست إلا ضيقًا في الأفق بقناع، وكانت مدنيته الكونية، في الحقيقة، ليست إلا ثقافة فرنسية.
تستمر مناظرة فولتير وهيردير لتتحدانا إلى اليوم. كانت هجمة هيردير على الكونية العابرة للأمم المفتوحة- المغلقة لفولتير من بقايا نقد أنثروبولوجيي القرن العشرين للبعثات التبشيرية، ومساعدات التنمية، وسياسات الأقليات والعولمة. إنّها تذكرنا كذلك بالنقد الموجه للأنثروبولوجيا نفسها، كوكيل للإمبريالية الثقافية. فيما بعد، تمّ تطوير التمايز بين الثقافة والمدنية أكثر في العالم الناطق بالألمانية، وإن كان بنجاح محدود على صعيد الأكاديميا؛ حيث نُظِرَ إلى الثقافة كما لو أنّها تجريبية وعضوية، بينما المدنية إدراكية وسطحية.
تمت إعادة تعريف مفهوم هيردير للشعب، وتمّ تسويقه سياسيًّا من قبل الفلاسفة اللاحقين، من ضمنهم فيختة (1762- 1814) وشيلينك (1775- 1854)، ممن تحول على يديه إلى أداة لتبرعم الحركات القومية التي انتشرت في أنحاء أوربا في فترة الصحوة على الحروب النابليونية. ودخل نفس المفهوم المؤسسة الأكاديمية كذلك، وعاود الظهور، بدايات القرن العشرين، كأطروحة للنسبية الثقافية. تعود جذور فكر الحركة النسبية والحركة القومية إذن إلى نفس مفهوم الثقافة، الذي يجد جذره في الحركة الرومانسية الألمانية.
كان عمانوئيل كانط (1724- 1804) بلا شك من أعظم الفلاسفة في ذلك الزمان، وكانت فلسفة كانط أيضًا أساسية إلى درجة يصعب وضعها ضمن أي مدرسة فلسفية محددة بوضوح. في الحقيقة، غالبًا ما كان يقال إنّ كانط وضع النهاية للعديد من المناظرات الفلسفية الهشة، وفيما بينها الجدل بين الإمبيريقيين والعقلانيين. في كتابه الموسوم: نقد العقل الخالص ("1781"، 1991)، التقى كانط مع لوك وهيوم في أنّ المعرفة الحقيقية تشتق من الانطباعات الحسية، إلا إنّه شدد كذلك (مع ديكارت) على أنّ البيانات الحسية رُشّحَتْ وصيغت من خلال مكونات العقل. كانت المعرفة حسية ورياضية، وضعية وتأملية، موضوعية وذاتية. وكان من أعظم إنجازات كانط إظهاره أنّ الفكر والتجربة مترابطان ديناميكيًّا، وأنّ اكتساب المعرفة عملية إبداعية. فأنْ تعرف العالم يعني أنْ تبتكر العالم القابل للمعرفة، والإنسان إذن بمعنى ما غير قادر على أنْ يعرف العالم كما هو بحدّ ذاته، ولكنّه يكسب القدرة على الوصول إلى العالم كما يقدم نفسه له، وهو قادر على أنْ يكتسب المعرفة الحقيقية حول هذا العالم.

الصفحات