هذا كتابٌ طموح، ليس على سبيل الأدعاء. إنّه طموح لأنّه يحاول- ضمن حيز الصفحات القليلة نسبيًّا- أن يوضح التاريخ المتنوع لعلم الأنثروبولوجيا.
أنت هنا
قراءة كتاب تاريخ النظرية الأنثروبولوجية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أثير الاحتلال الأوربي
كانت ‘الاكتشافات العظيمة’ ذات أهمية حاسمة بالنسبة للتطورات اللاحقة في أوربا والعالم، وبدرجة أقل بالنسبة لتطور علم الأنثروبولوجيا. وقد غذّت هذه الأسفار لهذه الفترة، من الرحلة البحرية الاستقصائية لهنري إلى الساحل الغربـي لأفريقيا في بواكير القرن الخامس عشر، حتى الرحلات الخمس لكولومبس إلى أمريكا (1492- 1506)، إلى الطواف البحري حول العالم لماجلان (1519- 1522)، خيالات الأوربيين بتوصيفات جلية للأماكن التي لم يعلموا بوجودها البتة حتى اللحظة. وبلغت قصص الرحلات هذه- زيادةً على ذلك- جمهورًا واسعًا من المستمعين على نحوٍ غير اعتيادي، وكان لاختراع الإعلام المطبوع عام 1448، أنْ جعل الكتب سلعة شائعة ورخيصة نسبيًّا في كل أوربا.
كان العديد من قصص الرحلات مليئًا بالأخطاء الحقيقية، وملطخًا بتعصبات مسيحية راسخة على نحو جلي. تمَثّل المثل المشهور في عمل رسام الخرائط أميريكو فيسبوشي، ممن طبع العديد من الدراسات الشعبية عن القارة التي لا تزال تحمل اسمه، وقد أعيدت طباعة كتبه وترجمت في عديدٍ من المرات، إلا إنّ توصيفاته للأمريكيين (ممن دعوا هنودًا؛ حيث اعتقد كولومبس أنّه وجد طريقًا إلى الهند)، تكشف مواقف تشككية أقل بكثير بالنسبة للحقائق من تلك التي وجدت في كتابات هيرودتس أو ابن خلدون. بدا أنّ فيسبوشي جاء ليستخدم الهنود كمؤثر أدبـي مجرد؛ ليسند العبارات التي صنعها حول مجتمعه هو. تمّ تمثيل الأمريكيين الأصليين، كقاعدة، كما لو أنّهم انعكاسات مشوهة، أو- في الغالب- مقلوبة للأوربيين: لا رب لهم، إباحيون، عراة، ليس لديهم سلطة أو قانون، وحتى إنّهم من آكلي لحوم البشر! على الضدّ من هذه الخلفية، جادل فيسبوشي بصورة مؤثرة لصالح فضائل الحكم الملكي المطلق والسلطة البابوية، إلا إنّ هذه التوصيفات الإثنوغرافية تقريبًا لا قيمة لها كمفاتيح إلى حياة السكان الأصليين زمن الاحتلال.
كان هناك معاصرون لفيسبوشي- من أمثال الفرنسي هيوجونوت جين دي ليري- ممن أعطى حسابات أكثر واقعية للحياة الهندية، وبيعت مثل هذه الكتب بصورة جيدة جدًّا. من ثمّ، بدا السوق نهمًا لقصص المغامرات من المناخات البعيدة في أوربا آنذاك. وفي معظم الكتب، كان هناك الكثير أو القليل من التضاد الذي يُرسَم عن الآخر (ممن هم إما ‘همج نبلاء’ أو ‘برابرة’) والنظام القائم في أوربا (إما أنْ يتم تحديه أو الدفاع عنه). وكما سنرى في فصول لاحقة، لا يزال إرث هذه الدراسات المبكرة الغامضة أخلاقيًّا يقوم بدرجة كبيرة على الأنثروبولوجيا المعاصرة. وحتى اليوم، غالبًا ما يتهم علماء الأنثروبولوجيا بتشويه حقيقة الشعوب التي كتبوا عنها في المستعمرات، وفي العالم الثالث، وفي الثقافات الفرعية أو المناطق المهمشة. وكما في حالة فيسبوشي، فإنّ هذه التوصيفات غالبًا ما تُشجَب من حيث إنّها تخبرنا أكثر عن خلفية عالِم الأنثروبولوجيا نفسه أكثر مما تخبرنا عن الشعب موضوع الدراسة.
أسهم احتلال أمريكا بثورة حقيقية فيما بين المثقفين الأوربيين؛ فاحتلالها لم يحرض فقط الفكر حول الاختلاف الثقافي، وإنّما سرعان ما أصبح واضحًا أنّ قارة بكاملها لم يكن قد أشير إليها حتى في الإنجيل قد اكتُشِفَت! حفّزت هذه البصيرة الكافرة التحول المستمر إلى العلمانية للحياة الأوربية الثقافية، وتحرير العلم من سلطة الكنيسة، وجعل المفاهيم نسبية بالنسبة للأخلاق والشخصنة، كما جادل تودوروف (1984) في أنّ الهنود ضربوا في قلب الفكرة الأوربية لما تعنيه أنْ تكون إنسانًا. كان الهنود بشرًا، ولكنّهم لم يتصرفوا بالطرق التي يعتبرها الأوربيون ‘طبيعية’ بالنسبة للبشر. ما هو البشري إذن؟ ما هو الطبيعي؟ افترض الفلاسفة خلال العصور الوسطى أنّ الإله خلق العالم مرة واحدة، وأعطى سكانه طباعهم الخاصة التي حافظوا عليها منذ ذلك الحين. والآن أصبح من الممكن أنْ نسأل ما إذا مَثّلَ الهنود مرحلة مبكرة في تطور الإنسانية؟ أدى هذا بدوره إلى مفهومات تكوينية للتقدم والنمو، والذي نادى بقطع جذري مع وجهة النظر الثابتة عن العالم في القرون الوسطى. وقد لعبت مفاهيم التنمية والتقدم أحيانًا دورًا مهمًّا في التاريخ اللاحق للأنثروبولوجيا، فإذا كان التقدم ممكنًا، فإن ذلك يعني أنّ التقدم حدث من خلال نشاط الكائنات الإنسانية، ومفاد هذه الفكرة أنّ الناس يصوغون مصائرهم، وأنّ هذا مفهوم أكثر ثباتًا في علم الأنثروبولوجيا.
وعليه، عندما اختبر الأوربيون أنفسهم في المرآة المحمولة من قبل الهنود، اكتشفوا كما لو أنّهم كانوا أفرادًا حديثين أحرارًا. وفيما بين أكثر هذه التعابير تأثيرًا لمفهوم الحرية الذاتية والمتداولة حديثًا، مقالة نشرت عام 1580 للفيلسوف الفرنسي مايكل دي مونتنيه (1533- 1592). تأمل مونتنيه بعقلية مفتوحة وبطراز شخصي لم يكن قد سُمِعَ من قبل في حينها حول القضايا العديدة الكبيرة والصغيرة. وعلى العكس من كل معاصريه، ظهر مونتنيه- في كتاباته حول الشعوب البعيدة- كما لو أننا يمكن أنْ نسميه اليوم مثقفًا نسبيًّا. في مقالة ‘حول آكلي لحوم البشر’، توصل إلى أنّه لو كان ولد وترعرع في قبيلة من آكلي لحوم البشر؛ فإنّه نفسه سيأكل لحم البشر في كل الاحتمالات. صاغ مونتنيه كذلك في نفس المقالة- والتي ألهمت روسو فيما بعد- مصطلح ‘الهمجي النبيل’، وهي الفكرة التي نوقشت كثيرًا فيما بعد في علم الأنثروبولوجيا.
توسعت المجتمعات الأوربية في القرون التالية على نحوٍ متسارع في المدى والتعقيد، وازدادت المواجهات فيما بين الثقافات من خلال التجارة، والحروب، والبعثات الدينية، والاستعمار، والهجرة والبحث، وأصبحت بذلك المجتمعات الأوربية متزايدة على نحوٍ متسارع. في الوقت نفسه، أصبح ‘الآخرون’ منظورين على نحوٍ متزايد في الحياة الثقافية الأوربية، من مسرحيات شكسبير إلى النصوص الأوبرالية، وطور كل فيلسوف رئيسي ابتداء من ديكارت (1596- 1650) إلى نيتشه (1844- 1900) فلسفته هو حول الطبيعة الإنسانية، وأنثروبولوجيته الفلسفية هو، مسندًا إياها في الغالب بصورة مباشرة إلى المعرفة والاعتقادات الراهنة حول الشعوب غير الأوربية. ولكن في معظم هذه الحسابات لا يزال ‘الآخرون’ يلعبون دورًا سلبيًّا؛ فنادرًا ما يهتم المؤلفون بطرق حياتهم هم وعلى ما درجوا عليه، ولكن يهتمون بدلاً من ذلك بفائدتها كذخيرة بلاغية في الجدالات الأوربية حول أوربا نفسها.