أنت هنا

قراءة كتاب خطاب راكان في الزمان وأهله

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
خطاب راكان في الزمان وأهله

خطاب راكان في الزمان وأهله

كتاب " خطاب راكان في الزمان وأهله " ، تأليف باسل عبد الله ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

الفصل الثاني

سنوات الطفولة

كنا نُمضي معظم أوقات فراغنا، أنا وباقي صغار الأمراء من فتيات وفتيان، في اللعب والهرولة والصراخ حول بركة الماء في حديقة القصر الكبيرة. لكنني، بشهادة أهل القصر، انفردتُ عن رفاقي بميزة، أبدى بعض المُحتكين بي من كهنة وأساتذة وأمراء انزعاجهم منها وانتقادهم لها. ووصل صداها إلى أبعد ما كنت أرغب أو أتوقع! فاعتبروها خصلة سيئة يجب عليَّ التخلص منها في أسرع وقت ممكن!

وقد نلتُ، بسبب هذه الميزة، ألقاباً عديدة انهمرت عليّ منها: "الأمير الحشري" و"الأمير المتسرّع"، وأسوأها: "الأمير الوقح". وهذا اللقب الأخير بالتحديد أطلقه عليَّ بنفسه كبير كهنة الجزيرة!!

السبب في شيوع صيت الوقاحة على هذا النحو، يعود إلى كم الأسئلة والاستفسارات غير المألوفة والغريبة (كما كانوا يقولون) التي كنت أطرحها على من حولي.

كان أساتذتنا من الكهنة أكثر المنزعجين من "وقاحتي" ومن أسئلتي الدائمة الحائرة عن كل أمر! وخصوصاً في موضوع إلهنا. فالأمر، بالنسبة إليهم، كان غيرَ مقبولٍ إطلاقاً. لكن سبب تذمرهم باعتقادي، كان يعود، من جهة، إلى عدم تمكنهم يوماً من إيجاد إجابات تُرضي تساؤلاتي، ومن جهة أخرى، إلى خوفهم من استخفاف أمراء القصر بهم في حال عجزوا عن إقفال فم صبي صغير ببعض الإجابات المرضية. ولعلّ أخطر ما كان يُرعبهم هو أن تتسرب أخبار كهذه إلى الملك، مما قد يُعرضهم للتوبيخ ولربما لنتائج أخرى وخيمة.

***

في أحد الأيام، وفي أثناء درس الديانة، استغللت وجود كاهن بديل محل كبير الكهنة الغائب بسبب المرض، وطرحتُ أحد أسئلتي الوقحة عليه.

سألته: "ما شكل الله؟ هل يُطلُّ على جزيرتنا؟ وهل نستطيع أن نراه وأن نتكلم معه؟ وهل من الممكن مُقابلته؟"

ردة الفعل الأولى جاءت من تلامذة الصف، فبعضهم ضحك، وبعضهم راح يصفّر، وبعضهم الآخر اكتفى بِتبادل الوشوشة. أما ردة فعل الكاهن البديل فقد تجلّت بعقدتين تسَمَّرَتا فوق حاجبيه، مُتْبِعاً إياهما بعلامة تعجب ظهرت على وجهه، وانحناء بنظره نحو الأسفل كمن يريد التعبير، بطريقة إيمائية، عن استيائه من سؤالٍ كان يجب ألا يُطرح وانزعاجه من ردّة فعلٍ غير مؤدّبة قام بها زملائي في الصف.

لكن أستاذنا ما لبث بعدها أن تمالك نفسه أمامنا، مُعبراً بحركة انفعالية (تمثيلية على ما أظن)، عن عدم رضاه. وليقول لي بعدها بشكل جازم، بأنني يوماً ما سأتعرف إلى وجه إله ياوار عندما ترتحل نفسي إليه بعد الموت.

ثم أردف مُنبِّهاً من أن أسئلة كهذه لا يجوز طرحها من قبل صبي في مثل عمري، وختم تعليقه متوجهاً إلي بالملاحظة التالية:

"الصبي في مثل عمرك يجب أن يُفكر في اللعب وتلقي الدروس فقط، وليس في طرح الأسئلة الوقحة!".

بالنسبةِ إلي، كانت ردّة فعله طبيعية، رغم أنني كنتُ قد أملت أن أحصل على إجابة مُعاكسة. ولا أنكر أنني لُمتُ نفسي بعد ذلك على طرحي سؤالاً استفزازياً كهذا! كما لا أنكر أن ربط الكاهن لسؤالي بإجابة المعرفة ما بعد الموت، أرعبني كثيراً. فبالطبع لم يكن في نيتي أو توقعتُ يوماً أنني سأموت! حتى أنني لم أفكر في هذا الموضوع أصلاً!

***

لم يَمض يومان على هذه المواجهة حتى توالت الأحداث معي، فقد كانت لجاجتي تزداد وأسئلتي تتبلور بوسائل أخرى غير متوقعة.

في إحدى الليالي، وبينما كنت مُستغرقاً في النوم، استيقظت مُضطربا، وانتفضتُ من فراشي مُرتعباً ومذهولاً وشارعاً بالبكاء... هو حلمٌ غريب، التقيت فيه ثلاثة ملائكة بدوا لي طيبين إلى حد أنني انتهزتُ الفرصة لأسألهم عن شكل الله. غير أنهم بدلاً من أن يُجيبوني إجابة مُرضية، عَقدوا حواجبهم بوجهي كما فعل الكاهن في الصف، وكرَّرُوا لي دفعة واحدة كلماته:

"الصبي في مثل عمرك يجب أن يُفكر في اللعب وتلقي الدروس فقط، وليس في طرح الأسئلة الوقحة!".

ردّة فعلهم كانت بالنسبة إلي عنيفة ومخيفة في آن. فلم أتوقع من هؤلاء أيضاً أن يُعاملوني بهذه الطريقة وأن يجيبوا عن سؤالي بهذه القسوة. فلطالما اعتقدت أن الملائكة أرأف بنا من كهنتنا، فإذ بهم أكثر تشدداً!

كان من الطبيعي أن تكون ردة فعلي على هذا الحلم المزعج صرخة ارتعاب تبحث عن منجد!

الصفحات