كتاب " خطاب راكان في الزمان وأهله " ، تأليف باسل عبد الله ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب خطاب راكان في الزمان وأهله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

خطاب راكان في الزمان وأهله
الفصل الثالث
تطور الوعي
توالت الأيام على تلك الحادثة، حتى بلغْتُ الثالثة عشرة من عمري. وفي هذه السن، اكتشفتُ أول مشاعري في الحب حين أعجبتُ بإحدى أجمل أميرات قصرنا على الإطلاق وتُدعى تاليا.
لم أكن أنا الفتى الوحيد الذي وقع في حبها، بل سرقت هذه الفتاة قلوب معظم الأمراء من أبناء سني. فكان هؤلاء، خلافاً لي، لا يُفوِّتون فرصة ممكنة للتودد إليها أو مُلاطفتها، في سبيل ابتسامة منها أو محادثة معها، بينما ترفّعتُ أنا عن ذلك.
تميزَت تاليا بعينين خضراوين كبيرتين تلألأتا على وجه رقيقٍ مُستدير، بثّ بغمازتيه أسفل خديها، كلما ضحكت، جاذبيةً ونعومة لا مثيل لهما.
***
كنتُ في الحب كثير الخجل، على عكس ما عَرفه عني مُحيطي في الأسئلة الأخرى. فلم أجرؤ يوماً على البوح لتاليا بإعجابي، بل اكتفيتُ بملاحقتها بنظراتي كلما التقيتها. أما هي، فيبدو أنها كانت على دراية تامة بحالتي، لكنها ربما توقعت أن أحاول التودد إليها كما فعل باقي الأمراء الشباب، لكنني خيّبتُ ظنها عندما لم أفعل!
في أحد الأيام، وبينما كنتُ مُستلقياً في حديقة القصر الكبيرة أتأمل سماء جزيرتنا، فوجئت بتاليا تظهرُ خلفي في الحديقة وتقترب نحوي ببطء، مُطلقةً، وهي تُحدّق إلى السماء بانزعاج، دون أن تلتفت إلي، عبارة: "كم الطقس حارٌّ اليوم، وكم الشمس ساطعة!!". شعرتُ بضرورة أن أعلّق على عبارتها، فأردفتُ قائلاً: "نعم، هذا صحيح،... الطقس حارٌّ جداً!"، ثم أقفلتُ فمي.
يبدو أنّ إجابتي لم ترقها، فأضافت، بعد أن اقتربت مني أكثر ووجّهت نظراتها إلي: "ماذا تفعل في الحديقة؟ فشمس الظهيرة قوية جداً!". أجبتها: "نعم... نعم! معكِ حق!.. لن يطول بقائي هنا!... لن يطول!"، وعُدتُ للصمت ملتقطاً أنفاسي من جديد. لكن تاليا لم تيأس، بل التفتت إلى زهور الحديقة قائلة: "كم جميلة هذه الورود الحمراء هناك، أليس كذلك يا زايان؟؟"، وأتبعَت أميرتنا كلماتها الأخيرة بنظرة استفزازية، وجّهتها إلى عينيّ مباشرة، زاد من إشعاعها الذهبي انعكاس ضوء الشمس عليها. فما كان مني إلا أن أجبتها بعد أن شتّتت نظراتها الساحرة أفكاري: "نعم... نعم،... هذا صحيح!"، ثمّ أضفت متهرباً بعد أن تلون وجهي بالأحمر: "... أنتِ على حق... الشمس قوية جداً اليوم،... ولذلك... لذلك،... سأدخل القصر الآن. أستأذنكِ".
لم تنتظرني تاليا حتى أنصرف، بل تحوّلت نظراتها الساحرة في لحظة إلى نظرات غضب. وقبل أن أهمّ بالتحرك من مكاني تنفيذاً لما صرحتُ لها به، أزاحت بسرعة نظراتها المباشرة عني، وانسحبَت من أمامي تاركة المكان، مُعلِنةً بضربة قاسية تلقتها كتفي اليسرى من كتفها اليمنى، وهي تهمّ بالابتعاد، امتعاضها من ردّة فعلي.
***
لم أشعر يوماً بالحرج، كما شعرتُ به حينذاك. فقد تخيّلتُ كتفها التي ارتطمت قصداً بكتفي، تقول لي عوضاً عن لسانها: "كم أنتَ جبان يا زايان!".
منذ ذلك اليوم، لم أعد أجرؤ على النظر إلى عيني تاليا وتجاهلتها نهائياً.
بررتُ ما جرى بالقول إنه من غير الطبيعي أن يُعجب جميع أمراء القصر من أبناء سني بالفتاة نفسها!... هي جميلة، هذا هو سبب إعجاب الجميع بها. ومن هذا التبرير استنتجت أنّ حبي لتلك الفتاة كان غير جدِّي، بل كان على الأرجح مُجرّد غيرة من إعجاب الآخرين بها! وسلّمتُ بالتالي بأنّ مشاعري خانتني!
ورغم ذلك، فإنني بقيتُ على استغرابي من الخجل الذي شعرت به أمام تلك الفتاة، ولم أستوعب أن الأمير الوقح تمادى في خجله إلى هذا الحد. واستنتجت أيضاً بأنني أمتلك مشاعر متناقضة تحتاج إلى دراسةٍ أعمقَ بها!
***
في سن الرابعة عشرة، بدأتُ بمرافقة والدي في جولاته المختلفة في أنحاء الجزيرة، وتحديداً في رحلات الصيد في جنوب الجزيرة وفي غابتها. وكان هذا الأخير كلما أضاعني، وجدني قد تسلقتُ شجرة أو اخترت مكاناً مرتفعاً وتمددتُ عليه، مردداً إحدى الصلوات.
في إحدى هذه الرحلات في غابة الجزيرة، وكالعادة، استغللت انشغال والدي بالتحدث مع بعض الرجال، وتسللتُ بغفلة عنه بين الأشجار، مُتسلقاً صخرة ضخمة متعرّجة بشكل يسهُل الوصول إلى أعلاها بدون عناء كبير، وتمركزتُ في أعلى نقطةٍ منها لأبدأ بإنشاد إحدى أحدث الصلوات التي حفظتها من صف التعليم الديني الأخير.