كتاب " في مرايا حانة " ، تأليف حسن ناصر ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
هو غريب مثل حمام الساحات
أنت هنا
قراءة كتاب في مرايا حانة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في مرايا حانة
الأرعن
في أول اتصال لي بأمي بعد خروجي من البيت، من الجنوب، من العراق، قالت لي:
ــ مات الأرعن..
تخيلته نائماًً بعد طول اضطراب، ومطيعاً بعد حياة طويلة من المشاكسة!
لماذا سميته الأرعن؟
يشتري مربو الطيور عادة طيوراً وهي فراخ. ومدجنو البلابل يعرفون أن لا طريقة للاستئناس ببلبل سوى اقتنائه صغيراً، لم يكتشف سعة الفضاء بعد! بغير هذا يكون التدجين سلسلة متاعب لا تنتهي.
لا سبيل لتدجين البلابل محترفة الحرية!
ولأنني كنت غشيماً، اشتريت بلبلاً طاعناً في الحرية والمشاكسة!
كانت زوجة أبي تسميني الأرعن. ربما لأنني كنت أبدو لها مؤمناً بأبعد مما ترى أو تخمن! أو لأني كنت أواجه أعتى إساءاتها بالخجل!
فهمت كلمة الأرعن على ما جرى. الأرعن هو مَنْ تبقى وجهة انتمائه مجهولة. ومَنْ تحركه دوافع غامضة.
حين اشتريت بلبلي المشاكس الذي لم يكن غضبه يهدأ، ضارباً بعناد، وبأقصى ما يستطيع شبك القفص بجناحيه، سميته الأرعن!
كنت أحزن لهياجه ولشوقه إلى التحليق. أهمس له:
لن أفتح لك أبواب القفص.. فـ الطائرات لا ترحم!
كان هذا في الشهر الأول من عام 1991.
اهتزاز الانفجارات.. الظلام ، أصوات الإذاعات تقرأ أنباء خرافية تدور على بعد أمتار من قفصه، من بيتنا. كل هذا لم يثن الأرعن عن توثبه المتواصل وضرب جدران القفص بجناحيه.
ومع أن الحصار كان ضارياً، كنت وأمي ندخر للأرعن بعض قوت يكفي لاستمرار محاولاته في فضاء القفص.
شُغلت عنه، فالحرب انتهت والعائدون منها يبعيون أسلحتهم لقاء الخبز!
الجثث في الشوارع، البيوت توابيت والمارة موتى مؤجلون. الكل يدور في قفصه ويضرب بجناحيه حياكة الأسلاك. مع هذا لم ننس تزويد الأرعن بما يكفي لبقائه حياً.
يوم كان القلق يشتد ويضع حواجزه بيني وبين النوم، أتسلل لأطيل النظر، على ضوء فانوس يضعف لنفاد الزيت، إلى حزنه! إلى وحدته الحزينة وخذلانه المبكي ملتقطاً ما تركناه له في القفص.
يلتقط بقايا الخبز جريحاً، يعرف أنه لن يتنازل عن كبريائه في جولة الصباح، و يدرك أن جناحيه في النهاية أضعف بكثير من أسلاك القفص.
قالت لي أمي:
ــ "مات الأرعن".
شعرت لحظتئذ بنصل ينغرز في أعماقي. كان هذا الطائر سيموت حتماً. لكنني عميقاً في داخلي، لم أكن أرغب في أن أكون على علم بموته. ربما كنت أريد بقاءه هناك في اللحظة التي تقاسمناها أنا وهو وأمي. مرت حياته في لحظة خاطفة أمام عيني. مرت حياتي واللقب الذي أطلقته زوجة أبي عليّ. أوشكت على البكاء، تماسكت وقلت لها:
ــ أعرف.. لامفر له من أسلاك هذه النهاية.
بعدئذ كان على روحي أن تشقى ببقايا جثة أخرى ترقد فيها.
1994