كتاب " في مرايا حانة " ، تأليف حسن ناصر ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
هو غريب مثل حمام الساحات
أنت هنا
قراءة كتاب في مرايا حانة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في مرايا حانة
(أمس التقيت غزالاً ينتظرني عند عتبة الدار. وهبني عينيه فضاعت الدار)
ضياع استقرار أحمد الخصبي جعل من كلامه هذا نهايةً لمكانته المدرسية. غياب العقل حمى غامضة. ليس للجنون تفسيرات كثيرة. الجنون عرض محتمل، مسٌّ مفاجئ.
طلابه كانوا أقلّ استقراراً ممّا تصور، المسلمات الساذجة قادتهم إلى تصديق جنونه برمشة عين. يرى جنونه منعكساً على صفاء عيونهم.
((لماذا لم يسترجعوا تاريخك معهم. كل ما شيدته أمام أعينهم؟
لماذا لا يكون الغزال ثمرة الاستشهادات العريقة التي تحفظها بقدرة أثارت الدهشة!
لماذا حين ند الكلام عنك تهشَّمت ليبقى دليلاً؟
لماذا تمكن لاعقله من تغييب عقلك! لم تكن تريد أكثر من إيجاد معادل الكلام لإحساسك بقوة الطبيعة، إشراق الضرورة الشعرية على أيامك.
يخرج الفقهاء لمسح فسحة اليوم، يردمون بقوانينهم الحجرية الطرق أمامك ويتركونك محاصراً بين خيارين، نهايتين لنهر كينونتك داخل هذه الجادة القصيرة (العمر)!
أن تفسِّر الغزال ووقوفه والقرطاس بإعادتها إلى هوامش حياتك السالفة، أن تختزل الغزال بغلق ما وراءه من أفق التأويل لتوصله بما يطابق الاستشهادات والاقتباسات!
أو أن تواصل السير مشعاً خارج حدودك حيث تولد الأشياء لتنبض في كون آخر!
الخيار الأول يحفظ لك يومك، مكانتك، اسمك، عقلك في حدود الصفة التي تُسقطها عليك عقولهم. و ثمن الخيار الثاني هو الجنون، الخروج من الدار.
لا يمكن أن تكون مخرّفاً. ما زلت يافعاً على ذلك. لكنه الخبل ذلك الذي يتربص بمن يقرأ الكتب وتظل سرجهم تضيء نوافذهم حتى وقت متأخر من الليل)).
كانت بغداد ما تزال طريّة. الذين عاشوا في أحشائها قادرون على الإحساس بنبضها. صغيرة مسورة، محتدمة. لخارطتها القدرة على الحضور الكامل في مخيلاتهم وهم يذكرون اسمها. لم تصطخب ولم تتبدد بعد. المساء يتخلل مفاصلها.
عبر أحمد الخصبي زقاقاً ضيقاً باتحاه باب أستاذه المريض، بدا الظلام ينساب من أسوارها بانتظام ويغمر مساحاتها. بقايا ضوضاء بعيدة تتسرب من الحوانيت. أزيز حشرات تعيش عوالمها المتطامنة في الشقوق. في بيت قديم جلس الخصبي الذي بدأت الشبهات تتجمع على أفكاره، قرب فراش أستاذه المريض قال:
ــ لماذا غادرت البيمارستان. الرعاية التي تتلقاها هناك أفضل!
ــ البيمارستان يوفر خديعة قاسية، ذلك أن المرض يبدو هو القاعدة. الحالة التي لايميزها وجود نقيضها. أما هنا، في هذه الحجرة الساخنة، فأنا حي مريض.هل ترى الفرق؟
ــ أراه بالتأكيد.
ــ تركت لك مخطوطتك على المنضدة هناك، كتبت ملاحظاتي بخط ضعيف، يدي ترتعش والريشة تجف من سخونة الهواء.. سوف تشقى من أجل فك رموز خطي، وفراغات الريشة الجافة.. بلغني ما كشفته يا أحمد!
ــ لم أكشفه. قلته ببساطة. أنت تعرف ما كنت حاورتك به في شأن الضرورة الشعرية.
ــ أنت لا تتحدث عن الشعر. أنت تقول (شعر) فيما تعني الحياة كلها. وهنا خطر الالتباس.
ــ لا أرى إلتباساً
ــ قد لا أراه أنا أيضاً. لكن الطبيعة المجبولة عليها المدارس تقول غير ذلك.
أجبت إجابات قصيرة لا تتوافق مع ما تحدث به أستاذي المريض. لم أسمع سوى استمرار حواري مع نفسي.
(كوة الدرس، انتحال عقل آخر لمحاكمة عقلك. خطر الالتباس أن ننظر إلى أنفسنا كقراء مع أننا نحن السطور. إنه يصل إلى خاتمته.وكأن المرض درجة منطقية تقع في سلّم حياته. إنه يوشك على الموت لأن الحياة غادرته).
يخرج الخصبي إلى أزقة بغداد. كل مرة يرتكب فيها فعل الخروج تبدو صاعقة.
بغداد تمتد أمامه الآن، بغداد التي يصفها الأنوري: