كتاب " في مرايا حانة " ، تأليف حسن ناصر ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
هو غريب مثل حمام الساحات
أنت هنا
قراءة كتاب في مرايا حانة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في مرايا حانة
كتب نائمة
دخل يسحب رجله مرتعشاً، يضع نظارةً سوداء. كان الليل يزحف صاعداً نحو قلب السماء!
مع هذا لم يكن ليثير شكوكي، أو يدفعني إلى أي نوع من الاحتراس. فالبضاعة التي أبيعها لا تغري اللصوص مطلقاً، كتب قديمة بلغات مختلفة. أنهيت رفع الكتب من الواجهة وأغلقت الدرج مستعداً للمغادرة. زبائني معروفون، هم باب رزقي الوحيد. أما ذلك الشاب.. لا، لم يكن شاباً، بقول أكثر دقة، ذلك الكائن الضعيف الذي يشبه إلى حد كبير كتاب مذكرات سيّئ الطباعة.. فلم يكن واحداً منهم.
توقعت أن يسألني عن اسم شارع أو متجر، أو أن يشحذ نقوداً قليلة. هيأت نفسي لجوابي الوحيد في وجوه سائلين يتكررون: الله يعطيك ويعطينا. فوجئت حين ناداني باسمي، لفظه على نحو واضح وقوي لا يتفق مع هيئته المهلهلة. قال شيئاً ما لم أسمعه جيداً، فدهشتي من معرفة الكائن لاسمي لم تترك لي فرصة فهم ما يقول، لكنه أردف:
ــ.. كنت أتوقع أن أرى (جعفر) هنا.
قال ذلك بتعب، وبطريقة من يرتاد المكان يومياً. فأجبته من غير أن أقصد، كأن الحوار كان مقرراً منذ زمن غارق في القدم:
ــ جعفر؟! لقد قتل جعفر منذ أعوام، ثلاثة عشر عاماً ربما..
أطلق حشرجة صغيرة كعجوز ليس للموت ذلك الوقع الصاعق عليه. قال بتعب أيضاً:
ــ حقاً..! لم يرد هذا في بالي قط، جعفر!! لقد كان متألقاً كحصاة في الظهيرة!
لم أنتبه إلى غرابة وصفه، ولم ألتفت إلى أنه سحب كرسياً ليجلس. لقد سحبني إلى دوامة الحوار المقدّر. قلت:
ــ ما زلت برغم مرور هذه الأعوام على موته غير قادر على تصديق ذلك. هل تعرف أنني أتوقع إطلالته دائماً؟
ما زلت، أيضاً، أخطئ فأنادي البعض باسمه!
أطلق قهقهة قصيرة انتهت إلى سعال، همس لي:
ــ مازلت أحمق.. مازلت كما أنت.. أين كنت طوال هذه السنوات؟ طوال هذا الألم؟ سلحفاة تختفي تحت درعها! تسحب رأسك إلى الداخل دوماً! ما زلت طفلاً خائفاً برغم البياض الذي يغمر رأسك وشاربيك. لماذا تريد تصديق موت جعفر؟ هل هناك ضرورة لهذا؟
شعرت بالخجل، وبدلاً من أن أثور في وجهه أو أغضب للطريقة التي وصفني بها، وجدتني أنكفئ معتذراً وأتمتم له..
ــ أنت على حق، لا ضرورة لهذا.
شدتني بقايا عالقة بأكمامه، زغب عصافير.. هل كان يعبث بالأعشاش في مكان ما؟
الرائحة التي عبق بها المكان، الرائحة التي تصاعدت من ملابسه القاتمة، كانت رائحة نباتات ليست في أوانها. أرخى جسده وأخرج مسبحة من جيبه، بدأ يلاعب خرزها. قال:
ــ أنت على حق أيضاً، لكي نعرف أننا أحياء علينا أن نصدّق موت من ماتوا.
داهمتني رغبة في البكاء. طريقته في الإفضاء هي في الغالب ما أثارني. كان صوته رقيقاً متناغماً لا مجال للتحصن ضد نفاذه. صوت كنت أشعر بأنه ينبعث من أعماقي. غادرتني الكتب، العناوين، الجرود، واسترحت مغمضاً عيني. كان الحوار قد بدأ ولم أكن مشاركاً فيه، كنت مؤدياً فقط. كأنني قلت ذلك مراراً وما علي سوى أن أعيده كالقصائد التي أحفظها:
ــ الحرب أخذته. أتخيله يصارع في مكان ما وآمل أن يعود يوماً. الذين يموتون في الحرب لا يغادرون تماماً! كأنهم وقعوا في فخ من الظلمة، إنهم محتجبون لا أكثر، غائبون عن الشمس، وفي لحظة سينبجس وجودهم هنا.. أمامنا ثانية.