أنت هنا

قراءة كتاب في مرايا حانة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في مرايا حانة

في مرايا حانة

كتاب " في مرايا حانة " ، تأليف حسن ناصر ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
هو غريب مثل حمام الساحات

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

في اللحظة التي استرجعها أحمد الخصبي (أو أحمد اللغوي) بعد أعوام من خروجه إلى الطريق في بغداد (كانت ما تزال فتية وطرية)، انبثقت فكرة التوافق وعدمه في رأسه بوضوح رقيق ومشع. كان قد أجل التصريح بآرائه لإحساسه بأنها تفتقد نقطة القوة التي يستند إليها بنيانه من القراءات والاستنتاجات. عام (1160م) أنهى أحمد الخصبي عامه السابع والثلاثين بضربة قوية، ولكن هادئة جاءت في ثنايا همس واحد من تلامذته حين أشار إليه بكلمة (الشيخ).

نظر إلى أصابعه بدقة، كانت قد اكتسبت رقة وبياضاً، غاب اسمرارها من اللعب القديم والتماس المباشر مع الأشياء، سوى ندبة على رسغه بدت له مثل بيت من الرثاء اندثرت الأحزان التي أنتجته وظل جماله اللغوي.

ما معنى أن تدخل الكهولة! هل كان الوقت ثمن هذه الأحاجي التي تفتقد نقطة القوة. الهموم التي ستبدو، حتماً، هزيلة وأنت تنظر إليها من كوة العامة. الظلال التي تلاحقها في الحجرات الضيقة، بين دفات ما ينتجه الورّا قون، في ضوء السُّرُج؟!

صفاء عيون التلاميذ يعكّر صفاءك اللغوي. العمر أصبح سريعاً. بعد الثلاثين يصبح سريعاً جداً. هل ذاك لأن الكائن يصبح أكثر عراقة في الحياة!

أكثر تجذراً إلى حد جعل مرور الوقت أليماً!

أم أنها الأحلام، صارت لها قوة الواقع بعد أعوام من الاستمرار والتكرار والتأجيل؟

ما وصل إليه أحمد الخصبي هو بحثه في الضرورة الشعرية. وصوله إلى نقطة البحث هذه جعلت عنف الإشارة إليه بكلمة (شيخ) هادئاً. المقتنيات العظيمة ثمنها العمر.

((أقول لشيخٍ يجلس معي في باحة المدرسة، أحس ُّ أن المدرسة رحم. وأعرف أنها ستلفظني ذات يوم!

في السوق ترى الناس يسيرون إلى مقاصدهم المحدودة، وأنت وسط السوق تائه، لاتدري أي الطرق أجدر بمشقة ما تبقى من العمر! دجلة يعدو بهدوء. الجسر أمامي وأنا أسير إلى بيت الشيخ في الطرف الآخر من بغداد، أريد أن أعبر إلى جهة أخرى من هذه الطبيعة!

أوراق تتخلى عن أشجارها للريح.تهوي منفصلةً عن الأغصان، تضمر ويعبث الاصفرار بها. تتحرك على تراب الطريق وتتجمع في الزوايا. الارتحال بعيداً عن الشجرة.

القصائد العالية لا تتألق إلا في لحظة تحولها من حالة أسبابها إلى حالة أخرى. إلا في خروجها عن نظامها. خروج يفعّله النظام العالي لقاعدة تؤدي في ذروتها إلى لحظة الاستثناء)).

الضرورة الشعرية كما تشكلت في ذائقة أحمد اللغوي، هي اللحظة القصوى لتحرّر بضرورة أعلى من القاعدة، بجمالٍ يبرر لها خروجها عن النظام. لحظة الانفصال عن قمة السُلّم الذي قادها إلى الأعالي. انفصال عن الغصن. الجماليات الكامنة في الكائن البشري ولّدت الشعر. والجماليات الكائنة في جوهر الشعر ولّدت النبو الخاطف الذي اصطلح عليه بالضرورة.

كان الموضوع سيستغرق انفعالات أحمد الخصبي وأفكاره لسنوات كما تشير الهوامش. كان هو بذاته الضرورة الشعرية التي انبجست في النظام الفخم لحياته. كان الخصبي في ذلك المساء يصل إلى الحالة التي لا تشبه أسبابها. الوجود الخالص في ذات الكون. حرية الفرح. تخطى إيقاع يومه وقافية بحثه والقوانين التي تضبط تحولاته وفاض مشعاً خارج حدوده. لم يسلك الطريق المعتادة، لم يكترث للمنعطفات ولم يلق بالاً إلى الذين يلقون عليه التحية.

لم يداعب الأشياء بكفيه منذ أن فتحت المكتبات حقول الحيرة أمامه، واختلفت علاقته بالعالم من حوله. هناك تماس من نوع آخر!

تماس ينشد الوصول إلى فكرة الأشياء بما لا تتمكن الحواس من عرقلته. في الكلمات، في الفكرة، في الكتابة، ما هناك حقيقة ليس الأشياء بل ظلها. اللغة غابة من الظلال!

الظل وجود أكمل. (شجرة) هي فحوى وجود الأشجار كلها. هي الروح القائمة التي لا يمسها الذبول. الكلمة تعويذة تبطل الظاهر بما يحمله من تغير وفساد وفناء وتنقله إلى وجود شامل. القصيدة ليست التجلي المعين لكتابة شيء، هي الظل الأعم للقصائد كلها. عالم الظلال الممتد يبدو قريباً الآن...

الصفحات