كتاب " حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة " ، تأليف منير غبور / أحمد عثمان ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
المقدمة
عندما تمت كتابة التاريخ المصري منذ حوالي قرنين، لم يكن هذا التاريخ يحتوي على مكان لواحد من أهم العصور في بلادنا، وهو العصر القبطي. ربما كان سبب غياب هذا العصر من تاريخنا المكتوب، يرجع إلى اعتقاد الباحثين الخاطئ بأن المصريين لم يعتنقوا المسيحية قبل الحكم البيزنطي في القرن الرابع. وبينما يوافق الكثيرون منهم على أن القديس مرقص هو الذي أسس كنيسة الإسكندرية، فهم ينظرون إلى هذه المدينة وكنيستها باعتبارها يونانية وليست مصرية.
الآن بعد مرور حوالي قرن ونصف القرن على بدء أعمال الكشف الأثري في بلادنا، أصبح من الضروري إعادة النظر في وجهة النظر هذه. وبينما تبين أن الإسكندرية التي وصل إليها مرقص كانت مدينة مصرية في حضارتها ومظهرها، فقد تم العثور على الآلاف من البقايا الأثرية في جميع أنحاء البلاد، تظهر بوضوح انتشار العقيدة المسيحية منذ القرن الثاني على الأقل. ومن المؤكد أن أقدم الكتابات المسيحية الموجودة الآن في جميع أنحاء العالم بما في ذلك العهد الجديد، وجدت في مصر، وليس في أي مكان آخر. وبما أننا نتحدث هنا عن التاريخ وليس عن الخلافات اللاهوتية، فمن المؤكد أن الجماعة المسيحية في مصر تكونت قبل أية جماعة مسيحية في أي بلد آخر. وبينما تبين البقايا الأثرية تنوع الجماعات المسيحية الأولى في مصر كما في بقية البلدان، فلم يتم تحديد قواعد ما يعتبر أورثوذكسياً قبل نهاية القرن الثاني.
حان الوقت حتى يكون لنا دور في كتابة تاريخ بلادنا، كما حان الوقت لإعادة فحص الأدلة على ضوء نتائج الكشوفات الأثرية الحديثة. عندئذ يمكننا استعادة ذاكرتنا المفقودة، والعودة إلى جذورنا الحضارية التي تمتد لخمسة آلاف عام خلال ثلاثة عصور تاريخية مهمة، الفرعونية والقبطية والإسلامية.
ترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنه يتحدث عن مرحلة منسية من تاريخ بلادنا، وهي الفترة المتعلقة بالحقبة القبطية من التاريخ المصري. كان اليونان القدماء يطلقون على أبناء الشعب المصري منذ أيام الفراعنة اسم "إيجيبتوس" حيث حل حرف الجيم اليوناني مكان حرف القاف، كما حل حرف التاء اليونانية مكان الطاء المصرية. ولا يزال الأوروبيون حتى وقتنا هذا، يستخدمون اسم الأقباط للدلالة على أبناء الشعب المصري، حيث يستخدم البريطانيون والأمريكيون كلمة "إيجيبشيانز"، كما يستخدم الفرنسيون كلمة "ايجيبسيان". ورغم ورود اسم مصر في القرآن الكريم، فقد استخدم المؤرخون العرب كلمة "قبط" للدلالة على الشعب المصري. إلا أن هذه الكلمة أصبحت الآن لا تطلق سوى على المسيحيين فقط من أبناء الشعب المصري.
انتهى حكم الفراعنة لمصر مع موت كليوباترا السابعة عام 30 قبل الميلاد، بعد حوالي ثلاثة آلاف عام. ومنذ ذلك التاريخ فقدت مصر كيانها السياسي المستقل، وصارت جزءاً من الإمبراطورية الرومانية، يتم تسيير أمورها عن طريق حاكم يرسله الإمبراطور ويكون مقره بالإسكندرية. ورغم استمرار التقاليد والعادات الفرعونية كما هي تحت الحكم الروماني، فقد جرت تغييرات كبيرة خاصة في مجالات الدين واللغة والفنون. ففي ظل السيطرة الرومانية ماتت الديانات القديمة «الفرعونية» تدريجياً، خصوصاً مع تحول المصريين جميعهم إلى العقيدة المسيحية الجديدة التي انتشرت من الإسكندرية وحتى أسوان، وفي نفس الوقت - رغم استمرار اللغة اليونانية كلغة البلاد الرسمية - بدأت كتابة مصرية جديدة في الظهور، تتمثل في اللغة القبطية التي حلت تدريجياً مكان الكتابات المصرية الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية القديمة. وفي ذات الوقت أتاح انهيار النظام الديني الفرعوني الفرصة لظهور أنواع جديدة من الفن المصري.
منذ وصول الرومان إلى بلادنا، لم يعد أبناء الشعب المصري يشاركون في حكم بلادهم، كما حرموا من حق تكوين جيش يحميهم أو حتى الانضمام إلى وحدات الجيش الروماني المرابطة في مصر. وظل الوضع كذلك بعد انتقال ولاية مصر إلى سلطة الدولة الرومانية الشرقية - البيزنطية - بعد سقوط روما في القرن الخامس للميلاد، كما استمر الوضع على نفس الحال بعد الفتوحات العربية والإسلامية، وحتى مجيء محمد علي باشا في القرن التاسع عشر. فقد ولدت مصر الحديثة مع وصول الحملة الفرنسية إلى أبو قير - شرقي الإسكندرية - عند نهاية القرن الثامن عشر، بقيادة نابليون بونابارت. ورغم أن الاحتلال الفرنسي لمصر لم يدم سوى ثلاث سنوات (1798م - 1801م)، فقد ساعد الشعب المصري بعد ذلك على التخلص من المماليك الذين اضطهدوهم. وبعد هزيمة المماليك ورحيل الفرنسيين، جاء محمد علي من ألبانيا مع الجيش العثماني ليملأ الفراغ، وسرعان ما تمكن محمد علي من تكوين قاعدة مصرية محلية للسلطة، من زعماء الفلاحين والموظفين وتجار القاهرة والأغنياء. وعندما اختار الزعماء المصريين محمد علي ليكون حاكماً لهم، اضطر الباب العالي إلى قبوله والياً على مصر. وبعد حوالي 18 قرناً من فقدان الكيان السياسي المستقل، استطاع محمد علي انتزاع البلاد من الدولة العثمانية، لتعود دولة مستقلة ذات سيادة. كما قرر محمد علي تحديث مصر على الطريقة الغربية، وأعاد تنظيم اقتصادها الزراعي. ولأول مرة منذ نهاية حكم الفراعنة، جند محمد علي الصعايدة المصريين في جيشه الجديد، وعهد بتدريبهم إلى الكولونيل الفرنسي سيف، الذي عرف بعد ذلك باسم سليمان الفرنساوي، وتم تنظيم الوحدات العسكرية على أساس النظم الأوروبية الحديثة.
في النهاية وقعت الدول الأوروبية اتفاق لندن سنة 1840م، الذي منح محمد علي باشا حكماً وراثياً لمصر، وأخرج البلاد من سلطة الدولة العثمانية، وإن ترك للباب العالي مظهراً صورياً من الولاية. كانت نتيجة انفصال مصر عن الإمبراطورية العثمانية هي استعادة المصريين لشعورهم القومي، وإدراكهم أنهم ينتمون إلى دولة خاصة بهم ولم يعودوا جزءاً من كيان سياسي آخر. إلا أن الدولة المصرية الوليدة سرعان ما سقطت تحت الاحتلال البريطاني في 1882م، ثم صارت محمية بريطانية بعد نشوب الحرب العالمية الأولى في 1914م. ومع هذا - رغم وقوعها تحت الاحتلال البريطاني - استمرت العناصر القومية المصرية في النمو ديموقراطياً، فتم وضع دستور للبلاد في 1923م، نتج عنه تكوين برلمان منتخب يمثل الشعب، كان بداية مسيرة الطريق الديموقراطي.
بعد سقوط مصر في يد الرومان، لم يعد هنا ملوك فراعنة يحكمون البلاد كما كان الوضع سابقاً، لكن الشعب المصري - القبطي - ظل يحتفظ بتراثه الثقافي القديم ولم يتأثر بالفكر الروماني أو العقائد اليونانية. فبعد دخول الرومان لمصر سنة 31 قبل الميلاد، صارت روما هي العاصمة السياسية للإمبراطورية الرومانية، بينما ظلت الإسكندرية هي العاصمة الثقافية والدينية فيها. ثم حدث تطور هام في مصر منذ منتصف القرن الميلادي الأول، حيث كان الشعب المصري هو أول شعب في العالم يعتنق - بأكمله - الديانة المسيحية الجديدة، بعد وصول القديس مرقص الرسول إلى الإسكندرية. كان الفراعنة هم الذين يدعمون الكهنة والمعابد بالمال والعطايا والهبات، وكانت المعابد وكهنتها وحدها معفية من دفع الضرائب. ومع سقوط النظام الفرعوني وحلول نظم رومانية جديدة لحكم البلاد، لم يعد هناك من يحمي المعابد القديمة، أو يهتم بحالة التدهور التي ألمت بها. وهكذا اختفت الديانات القديمة، لتحل مكانها الديانة المسيحية تدريجياً في كل أنحاء مصر.
المرحلة القبطية :
هذا العصر الجديد الذي بدأ في مصر بعد سقوط حكم الفراعنة، يمثل المرحلة القبطية من التاريخ المصري والتي انتهت بوصول عمرو بن العاص في 641 للميلاد، وبداية مرحلة التاريخ الإسلامي. فهذا هو عصر المصريين الأقباط دون حكامهم السابقين من الفراعنة، أي أنه عصر القبط، ففي حالة الضياع التي عاشها المصريون بعد انهيار المؤسسة الدينية الفرعونية، وبحثهم عن الخلاص في عقيدة جديدة تتفق مع عقائدهم القديمة، وخصوصًا ما يتعلق منها بقيامة الأموات والحساب، كان المصريون هم أول الشعوب التي تقبلت العقيدة المسيحية الوليدة، من الإسكندرية في الشمال وحتى أسوان وبلاد النوبة في الجنوب. وهكذا صاحب العصر القبطي - عصر الشعب المصري بعد الفراعنة- انهياراً للديانات القديمة وانتشار للعقيدة المسيحية بين المصريين.
كما كانت الكنيسة التي أقامها القديس مرقص في الإسكندرية عند منتصف القرن الأول - وكان هو أول البطاركة بها - هي أول كنيسة مسيحية في العالم كله. وكان أسقف الإسكندرية هو الوحيد الذي حصل على لقب "بابا". ولم تظهر كنيسة روما نفسها إلا بعد حوالي عشرين عاماً من كنيسة الإسكندرية، حيث لم يتم تعيين خلف للقديس بطرس في روما قبل ستينيات القرن الأول. كما كانت مدرسة اللاهوت بالإسكندرية هي الوحيدة في العالم التي تدرس اللاهوت المسيحي، خلال النصف الثاني من القرن الميلادي الثاني. وقد تلقى العديد من أساقفة الكنائس العالمية دراستهم في هذه المدرسة المصرية القبطية .
ومنذ انتهاء تبعية بلادنا للدولة العثمانية وعودة السيادة المصرية الحديثة في عصر محمد علي باشا، عاش المصريون - مسلمون ومسيحيون - في وفاق اجتماعي وتقارب في الثقافة والعادات الاجتماعية، ولم يحدث تفاضل بينهم بسبب العقيدة الدينية أو الأصل السلالي، حتى بالنسبة إلى أحفاد الجماعات التركية والمملوكية. فقد شارك الجميع جنباً إلى جنب في بناء الدولة والجيش، كما ساهموا في بناء الاقتصاد والثروة. وفي ثورة 1919م، خرج المصريون جميعاً - مسلمون ومسيحيون - لمواجهة العدو والمناداة بالاستقلال والدستور.
لهذا فإنني أرجو من قراء هذا الكتاب أن يفهم الجيل الحالي وكذلك الأجيال القادمة تاريخ الأقباط في مصر ، وأن يذكرنا هذا الكتاب بالتطورات الهامة في تاريخ بلادنا، وأن يساعد في تغيير الوضع السيئ الذي صار قائماً الآن، حيث ظهرت عناصر التفرقة بين أبناء الأمة وصار الأقباط المسيحيون مستبعدين من المناصب الحساسة وكذلك السيادية في الدولة، كما لو كانوا أجانب في وطنهم الأم لدرجة الشعور العام أنه لا يمكن الاطمئنان إلى ولائهم وإخلاصهم لبلادهم. فهذا الكتاب خطوة أولى - أرجو أن تتبعها خطوات - حتى نستعيد الذاكرة الحضارية لشعبنا المصري، وسوف تؤدي بكل تأكيد إلى عودة الوفاق بين أبناء شعبنا، كي نساهم سوياً في بناء غد أفضل لأبنائنا ومستقبلنا.
وأن تدريس هذا الكتاب في المدارس والجامعات سيتيح فرصة افضل لكي تعرف الأجيال تاريخها الحقيقي بدلاً من مسح تاريخ الأقباط من ذاكرة التاريخ المصري ، وهذا في حد ذاته ظلم للتاريخ ويستتبعه خلق عدم الوفاق بين ابناء الأمة .
منـير غبـور